عقب النجاح الذي تحقق لربيع الثورات العربية المتمثل بسقوط مجموعة من رموز الاستبداد بعدد من أقطار الوطن العربي، وتبوؤ المشاركين في توزيع مناصب المحاصصة فيما بينهم وما هي إلا أشهر ونيف على حالة الوئام التي سادت علاقات المؤتلفين، حتى أخذت أصوات تسمع وتتردد، من قبل بعض تيارات الإسلام السياسي، مطالبة: تارة بالخلافة الإسلامية وأخرى باعتماد الشريعة الإسلامية كأساس للحكم، إلى آخر تلك الشعارات العاطفية والخيالية والديماغوجية التي لا تفضي إلا إلى المزيد من المتاهات التي ضيعت على العرب قروناً، وعقوداً من السنين، وهم يلهثون وراء الأوهام البعيدة عن واقع حياتهم المعاش، وحياة كافة بني الإنسان. واليوم أمام كتاب قيم لأحد أعلام مصر العزيزة إلى عقولنا وقلوبنا إنه المستشار: محمد سعيد العشماوي الذي تطرق فيه لموضوع الخلافة الإسلامية، ومعانيها الحقيقية، لا كما يحلو للبعض فهمها وتصورها.. ففي مستهل هذا الموضوع يقول المستشار: عندما كان الرسول عليه الصلاة والسلام ما بين عام “622م/ 1ه و632/10ه” عندما كان يغادر المدينة بهدف غزوة، أو سرية أو لأي أمر آخر، كان غالباً ما يستخلف عمرو بن أم مكتوم “الأعمى الذي نزلت بشأنه مقدمة سورة: “عبس وتولى أن جاءه الأعمى”. وهذا الاستخلاف أشبه ما يكون بالإنابة المحددة زماناً ومكاناً، فترة غياب النبي عن المدينة وفي المدينة وحدها.. إما لرعاية شئون أسرة النبي وإقامة الصلاة، وما شابه من أمور المسائل العادية والمعاش، دون أن تتعدى لتقيد معنى حكم المسلمين، ولو خلال فترة غياب النبي وإن كان ذلك في المدينة وحدها. فالاستخلاف، أو الإنابة هي من الرسول الحي الموجود في مكان آخر، لفترة محدودة وليست ممن انتقل إلى رحمة الله، وهو استخلاف محدد زماناً بفترة غياب النبي، ومكاناً بالمدينة وحدها كما أنه لا يتصل بالدين أو يتعلق بالشريعة، لأن أمور الدين وشئون العقيدة وأحكام الشريعة هي من حقوق النبي وحده بمراقبة الوحي وهو يباشرها في أي مكان يكون فيه وفي أي وقت يمر عليه، سواء كان في المدينة أم في غيرها، والاستخلاف أو الإنابة مع كل ذلك لا يمكن أن يفيد معنى الحكم أو ممارسة أعباء الحكومة وصلاحياتها، كما سلف بيانه في الفصل السابق من أنه لم تكن للنبي حكومة بالمعنى المفهوم حالاً ، ولأن ابن مكتوم الذي طالما استخلف في المدينة مرات عدة رجل كفيف، ومن شروط الحاكم في الإسلام أن يكون مبصراً يتمتع بسلامة الحواس. فالخلافة بذلك كانت عهداً من النبي وهو على قيد الحياة إلى شخص بذاته ينيبه عنه، فترة محددة في مكان معين، ليشار بتفويض منه رعاية شئون أسرته ومسائل المعاش العاجل، وباقي المسائل اليومية الملحة، التي لا تتعلق بتبليغ الدين ولا بوضع الأحكام، ولا بتنفيذ الحدود، ولا برئاسة الناس أو بسياسة الدنيا، وهذا المعنى هو المستفاد من مفهوم لفظ الخلافة في القرآن الكريم وفي اللغة العربية.. وفي معاجم اللغة العربية إن الخليفة هو الذي يستخلف ممن قبله وأن الذي يستخلف هو من يجعل له خليفة، والخلف هو التابع لمن مضى أما الخلف فهو البدل عن غيره. ولذلك فقد روى عن ابن عباس أن أعرابياً سأل أبا بكر الصديق فقال له أنت خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم: فقال أبوبكر: لا فقال(الأعرابي) : فما أنت ؟ قال أبوبكر: أنا الخالفة بعده أو قال: أنا خالفه ولست خليفته، بمعنى أنه (أبوبكر) تلا النبي في الزمان أو تبعه في الوقت لكنه ليس بدلاً عنه وخلفاً منه. نستخلص من كل ما سلف بيانه أن النبي كان يستخلف عندما كان يغادره في غرض أو مهام ابن مكتوم الأعمى وأن المشكل الذي طرأ على معنى الخلافة عقب وفاة النبي صلوات الله وسلامه عليه.. فقد ظن البعض أن لفظة الخلافة تعني معنى شرعياً، و اعتبروا أنها جزء من الدين في حين أنها عبارة غامضة، دون الانتباه إلى أنها في مضمونها ومعناها نظام تاريخي جزء من التاريخ الإسلامي وبعض من الفقه الإسلامي لكنه ليس ركناً من الدين نفسه ولا حكماً من الشريعة ذاتها إلا في الفهم الشيعي على ما سوف يلي بيانه. فالخلافة الإسلامية من واقع نشأتها ووفقاً للتحليل العلمي، لا للتقدير الوهمي ظهرت كرياسة دنيوية وإمارة واقعية لا تؤسس على نص ديني، ولا تقوم على حكم شرعي فهي على ما سلف طرحت ونشأت في وقت غابت فيه أسرة النبي عن شهوده، وفي ظروف يرى فيها كل من الأنصار (أهل المدينة) والمهاجرين (أهل مكة) أن الطرف الآخر يريد تصفيته تماماً واجتثاث شأفته نهائياً، فسعى كل إلى الإمارة كي ما يحمي كيانه ويصون وجوده ويمنع غيره من اختزاله. وفي الصراع المحموم لتنحية الطرف الآخر والاستئثار بالإمارة، لم يطرح أي نص ديني لأنه لا يوجد أي نص في القرآن عن الخلافة، ولم تذكر فكرة قرابة النبي وأسرته وبيته لأن فهم المؤتمرين كان بعيداً تماماً عن منطق ميراث النبوة ووراثة السلطة الروحية أو السلطة الزمنية، ولم يرو أي حديث عن النبي لأنه لم يكن آنذاك أي حديث واضحاً صريحاً قاطعاً يحسم مسألة الخلافة.. بهذا بدأت الخلافة في جو من الصراع السياسي، وظهرت من خلال الجدل الكلامي. وتحددت كلفتة لا تتكرر ثم حسمت نهائياً بأعمال العنف. وهذه العناصر جميعاً داخلت بشكل أو آخر نسيج الخلافة الإسلامية وشابكت خيوط إمارة المؤمنين، حتى أصبحت هي الغزل والثوب وهي الخيط والنسيج في الإمارة والخلافة على مدى تاريخها وفي صميم طبيعتها على طول القرون. وقبل اختتامي لهذه الحلقة أود التنويه إلى أن الدافع لتناولي هذا الموضوع هو ما نشاهده من مجريات للأحداث السياسية بأقطار الوطن العربي خاصة تلك التي شهدت موجة الربيع العربي واندفاعات الثورة، إلى جانب ما نسمع ونشاهد من طروحات لمفاهيم خاطئة منحرفة عن جادة الحق والصواب صادرة عن أناس يدعون بالعلماء، حيث كان آخر فتوى لهم قد صدرت قبل أيام: بإهدار دماء جملة من أعضاء هيئة الإنقاذ المعارضة بمصر فنسوا وتناسوا كافة الشعارات الديمقراطية التي رفعت وترددت وبُحت بها حناجر وأصوات المتظاهرين إبان ثورة الخامس والعشرين من يناير بميدان التحرير بقاهرة المعز.. فأين يا هؤلاء لا تذهبون من الدولة المدنية الحديثة والدولة الديمقراطية والمواطنة المتساوية وكافة تلك الصيحات والمنادات والهتافات المدوية ؟إنه الغلاط والخداع. رابط المقال على الفيس بوك