يحكى أن “بثينة” صاحبة العاشق الغزل “جميل بن معمر” دخلت يوما على عبد الملك بن مروان ، وكان قد أعجبه ما قاله فيها جميل من غزل رقيق، فقال لها الخليفة: “يا بثينة ما أرى فيك شيئا مما كان يقوله جميل” ، فقالت وقد أخذتها الدهشة من كلامه: “يا أمير المؤمنين إنه كان ينظر إلي بعينين ليستا في رأسك”، هذه المقدمة الطريفة تقودنا إلى قضية هامة في موضوع علم الجمال، والاختلافات الفكرية حول تحديد مفهوم دقيق للجمال، فمن قائل: إن الجمال حقيقة موضوعية محسوسة في الشيء والموضوع الجميل - بمعنى ان للجمال مقاييس ومعايير دقيقة ومحددة مسبقا يجب أن يتفق عليها جميع الناس ومن خلالها يحكم على جمال الشيء أو قبحه، أو درجة جماله.. ومن قائل : إن الجمال كامن في عين من يحس به ليس إلا، وصاحب النفس الجميلة الموهوب بالإلهام والحدس هو الذي يدرك هذا الجمال ويستطيع ان يظهر كوامنه. والحقيقة ان القضية خلافية فلسفية وفكرية طويلة بين النظرتين المادية والذاتية، ولعل المدرسة التوفيقية التي تمزج بين المذهبين هي النظرة المنطقية فالأشياء الجميلة تُذكّر الروح فينا بطبيعتها الروحانية ، وذلك لأن هذه الأشياء الجميلة كلها تشترك في «الصورة» المستمدة من عالم الروح ، وإذا ما خلا شيء من تلك الصورة كان قبيحا . المقاييس الحسّية وحدها تُجرّد الجمالَ جوهره السّاميَ : من الخطأ أن نعتقد أن للجمال مقاييسه الحسية وحدها ، تلك التي تقع عليها العين أو تسمعها الأذن ، أو يشمها الأنف، أو يتذوقها اللسان، أو تتحرك بها لمسات الأطراف العصبية .. فالجمال مادة وروح وإحساس وشعورٌ ، وعقل ووجدان، ،اذ ليس هناك مانع من الجمع بين المفهومين السابقين لحقيقة الجمال والشعور به فالجمال حقيقة موضوعية ظاهرة في الكون والموضوعات والأشياء، لكنه سهل ممتنع على أولئك الذين لا يرون في الحياة إلا قبحها ومعاناتها فالجمال يتطلب نفسا جميلة لإدراكه والشعور به، ولكن نفوس وأذواق البشر هي التي تختلف وتتفاوت، فما يراه شخص شيئا رائع الجمال، يراه آخر جميلا الى حد ما، ويراه ثالث أمرا عاديا، وقد لا يستثير إعجابه في شيء ولا يسره ولا يهز وجدانه. فالجمال موجود (مادة وروح) لكنه نسبي يخضع للأذواق ولعل أوضح تعريف للجمال: أنه ما يريح النفس ويشعرنا بالبهجة والمتعة ويحقق الانسجام، وصاحب الذوق الرفيع يكون تأثره وتذوقه أكبر وأرقى والبعض يحتاج الى تدريب وتهذيب للذوق ليصل الى درجة المتعة مرورا بالخبرة الجمالية، ذلك أن الفطرة مع البيئة والتربية هي التي تغرس القيم وتوجه السلوك. ان الله جميل يحب الجمال: ومن يشاهد صور وآيات الجمال في الكون يجدها كثيرة متعددة شكلا وروحا، لذلك فالإنسان الجميل مطالب بإدراكها لأن الخالق سبحانه وهو الجميل المطلق- خلق الإنسان جميلا ( في أحسن تقويم ) وخلق الأرض جميلة (إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها ) والسماء جميلة ( وزيناها للناظرين ) ثم أمرنا بتجميل سلوكنا ( فاصفح الصفح الجميل ) (واصبر صبراً جميلاً ).. وذلك لنعايش الجمال ونستمتع به ولنقدر عظمة الخالق في بديع صنعه، ولنجعل حياتنا أكثر جمالا وبهجة. ولعل الأخلاق هي فن الحياة الأجمل، والتي لا يتقنها للأسف كثير من الناس. وعودة إلى القصة في مقدمة المقال، وإن كان لا يهمنا في هذا المقام فيما إذا كانت (بثينة) صاحبة جميل على مستوى بارع من الجمال تستحق هيامه وإبداعه الغزلي فيها الى درجة الخيال، وكما سمع بها عبد الملك بن مروان ، فإن العاشق يرى حبيبته ملكة جمال الدنيا. لكن المهم هنا أن نعرف أن الجمال أو الإحساس به لا يمكن أن تراه عين الساخط المتشائم من الحياة وجمالياتها، فالجمال ليس وهما غائبا عنا أو في النفس الباطنة ولا يحتاج الى عبقرية فنية أو إلهام فني وذوقي ، ليصبح إدراكه مجرد حدس صوفي. لأنه حقيقة ماثلة لكنها تحتاج الى انسان سليم المشاعر والى حس مرهف يستطيع الانتباه والتوقف والشعور به والمشاركة فيه، وليس شرطا ان يكون فنانا مبدعا فالمتذوق فنان بالفطرة والمران ، والحياة كلها ضرب من الفن الراقي الرفيع يجدر بنا في هذا العصر اتقانه اخلاقيا وجماليا . وربما كان من زينة القول أن نذكر هنا قول إيليا أبي ماضي: والذي نفسه بغير جمال لا يرى في الوجود شيئا جميلاً رابط المقال على الفيس بوك