يتعجب اليمني المتابع لنشاط الفساد المستفحل في بلاده، ويزداد عجبه معجوناً بالمرارة حين يعرف أن في البلاد عديد هيئات لملاحقة الفساد ونيابات للأموال العامة وهيئات للمناقصات والتفرج على الفساد، وتليفونات للشكاوي، وكلها مشلولة ولا تستطيع أن تفعل شيئاً أمام طابور الفساد المستوطن بالأصالة عن نفسه وبالنيابة عن النهابين والمفسدين من الوزن الكبير المتمددين في مختلف المؤسسات الحكومية والهيئات والمصالح، لدرجة أن لا شكوى ولا هم يحزنون، ما جدوى أن تكتب الصحف عن فساد وتشير إلى الجهة نفسها بطلة الفساد ويتحدث الناس حتى كلت السنتهم ويتظاهر المتظاهرون لتخليصهم حتى من بعض المتغولين على مسئولياتهم ومناصبهم، عسى من يسمع ويسأل ويدقق.. ثم يخفف على الناس بعض نحيبهم وأناتهم.. فتذهب الشكوى والأصوات ويرتد الصدى بأصواتهم ويتعتق العجب المرير مع الأيام والشهور والسنين.. إن كان الناس في هذه البلاد قد تأقلموا مع النظام السابق، ودجنوا على التعايش معه كأمر واقع لا حول ولا قوة لهم في مجابهته.. فكيف يمكن لهم أن يتقبلوا كل وطأته “بعبلها”. بعد ثورتهم أو انتفاضتهم التي سالت دماؤهم في عشم التغيير!؟. ما بال حكومة الوفاق تنام وتصحو وتمضي في “الدعممة” كأن لا شيء يعنيها من ذلك، وإنما هو شيء يعني طابور الفساد نفسه في اتخاذ الخطوات اللازمة حين ينتفض الناس أو يتظاهرون ليستخدم ما يراه من القوة والرصاص الحي والغازات المسيلة للدموع، أو غير هذه الوسائل من الطزطزة وإدارة الظهر، وبعض الصبر على صراخ “المجانين” هل تستخدم المرونة.. أي مرونة مع فاسد اكتشف بالاسم والجهة ووثائق إدانة!؟ ما الذي سيترتب على الحكومة المدعممة المرنة بجمعها الوفاقي، أو ببعضها ممن دفعت بهم الانتفاضة في عشم التغيير وأمانته حين ينزاح فاسد من وجوه الناس إن لم يحاكم ويحاسب، هل يخل ذلك بعملية الوفاق!؟ وهل كان الوفاق على ترك الفساد والتعايش معه في إخلال واضح بشرف التغيير والدماء والأمانة!؟. تكثر الأسئلة وتشحب الأصوات، وتحترق الأقلام والقلوب والأفئدة وترتفع الأصوات في الصدى ويرتد الصدى.. في انتظار أن تقول الحكومة شيئاً أو تفعل شيئاً أو حتى ترد على أصوات الناس.. فلا ترد. ينبغي أن تقول شيئاً.. أم أنها فطنت إلى أنها “حكومة ترانزيت” لا يحق لها الدخول من المطار.. بل تنتظر في صالة الانتظار حتى يحين إقلاع الطائرة بها إلى وجهتة.. أم من حيث أتت!؟ من سنين والناس والأقلام والصحف تتداول كارثة الجرف والتفجير التي تقوم به مئات السفن في بحر البلاد بحثاً عما تريده من الأحياء البحرية.. ثم تكب الأحياء الأخرى في استهتار، وعدم اكتراث لا يمكن أن يحدث في أي بلد أخر مهما صغر عدى في اليمن, أن يقوم الأمن باستنفار قوته ورصاصه وغازاته المسيلة للدموع ضد مستضعفين يدافعون عن لقمة عيش أولادهم، وعوائلهم في مدينة الحديدة “نموذج” إنما هو نموذج لقوة الفساد وسطوته في استرخاء حكومة الترانزيت. أن يبلع ذلك في الماضي كاللقمة الثقيلة على حلق المواطن وقلبه، أما أن يكون ذلك في الظروف الحالية، وبعد انتفاضة الناس وانتظارهم في محطة الأمل فإنه الأشد قسوة ومرارة، يا إخواننا في الحكومة إن لم تكن شيئاً أخر بتخفيف المفردة، إن ما يحدث من الجرف والتفجير من قبل هذه السفن المرخصة أم من خارج منافسات الترخيص.. سفن السرقة والبلطجة على بحر هذه البلاد. بما في ذلك تفجير وجرف “الشعب المرجانية” مع الأحياء بالعبثية الحاصلة.. فإنما سنصحوا بعد بضع سنوات قلائل على تصحر البحر وخلوه من الأسماك والشعب.. من لا يعرف وظيفة الشعب المرجانية فهي من تستقبل البويضات وتحفظها حتى تمر بدوراتها كرحم الأم حتى تنطلق كأحياء وثروة، وفقدان الشعب يعني استئصال رحم الأم. إن الخسارة والكارثة لن تقتصر على الصيادين في عموم سواحل الوطن، ولكنهما ستعمان الشعب والوطن. في قصة طريفة طرافة حكومات هذا البلد المتعاقبة وفساده المتغول.. قادت الزميلة الإعلامية خديجة السلامي وفداً أدبياً فرنسياً في أرخبيل سقطرى في العام 1995م في فسحة سياحية فوجدت على بعد بضعة أميال من المنطقة مجموعة من البواخر بعضها يصطاد والبعض الآخر يطبخ ويعلب ويصدر دون أن يعرف أحد كيف ولا من أين، وهل تعلم الجهات في الدولة وتشارك في مثل هذا الاستغفال والهبر. أم أن لا أحد يعلم. ذلك نموذج مما يحدث لثروات هذا البلد ومقدراته.. وقد كتبت عن هذه الحكاية دون أن تثير شيئاً من العجب، أو الاستغراب أو حتى أ ب من الرد، ولم نعد نعرف شيئاً عن هذه الطرفة الكارثة انتهت أم مازالت تواصل الحكي.. تذكرنا قصة الصيادين اليمنيين الموصولة بواقعة طارق بن زياد التاريخية ولودريق الأسبانية حين خاطب جنده عندما أحدق لودريق على جند المسلمين بأضعاف أضعاف عددهم : “أيها الجند العدو أمامكم والبحر من خلفكم” بمعنى ستموتون غرقاً إن فررتم . فالأريتيريون وسجونهم أمام الصيادين إن هم تجاوزوا حدودهم بحثاً عن الأسماك الفارة من التفجير والجرف.. أو العودة من حيث أتوا “حراف” مع الجوع وضياع الرزق.. فيفضلون الذهاب والمغامرة بدل العودة فارغي الأيدي والقوارب. بلغ عدد المساجين من الصيادين اليمنيين بحسب الإحصائية الأخيرة تسعمائة وعشرين صياداً.. أطلق منهم مائة وعشرون صياداً فقط.. بعضهم أمضى سنوات في السجن دون أن يسأل عنه أحد. معلوم العودة دون قوارب ذلك غيض من فيض يعانيه الإنسان اليمني أينما ذهب بحثاً عن الرزق منزوع القيمة والكرامة لأسباب التغول الإجرامي للفساد في بلاده.. مع أن بلاده تعج بالخامات الطبيعية المهملة التي لم تستغل.. لاكتفاء الفساد بما هو تحت يده من الهبرات السانحة السهلة بطول البلاد وعرضها.. فلم بالبحث والتنقيب والانتظار ووجع القلب، إنه قدره اليمني مع لعنة “سيل العرم” التاريخية التي يبدو أنها لا تريد مفارقته حتى يأتي “ مهديه” الوطني المخلص النزيه لينزع عنه تلك اللعنة ليعيش في وطنه باكتفاء وكرامة، وينتزع احترامه في بلاد الآخرين. رابط المقال على الفيس بوك