وأنا اقرأ رؤيتي التجمع اليمني للإصلاح، والمؤتمر الشعبي العام للقضية الجنوبية ترسخت لدي قناعة بأن أسلوب الإمام أحمد في قياس وعي الشعب من القضية الوطنية يتكرر اليوم في هاتين الرؤيتين، وكأن التنظيمين ما يزالان واقعين تحت تأثير الثقافة ذاتها. فبدلاً من أن يشخصا القضية كقضية قائمة حالياً، ومشكلة متفجرة، ذهبا للبحث عن جذورها وبطريقة “ بني إسرائيلٍ” حينما تشابهت عليهم البقر، فكل من هما ذهب يبحث عن كبش فداء يقدمه قربانا مجانياً، وليس البحث في طبيعة القضية، وسبل الخروج منها.. فكلا التنظيمين نظر للحوار الوطني باعتباره فرصة للمناورة وتسويق ثقافته ومواقفه الخاصة، والقضية الجنوبية والتي أجمعت عليها جميع المكونات والفعاليات السياسية على أنها أم القضايا وجوهرها.. وفي ظل هذه الوضعية تأتي رؤيتا الإصلاح والمؤتمر لتجسدا هذا البعد، وكأن القضية الجنوبية سلعة قابلة للتسويق.. بينما يدرك الجميع بأن مؤتمر الحوار الوطني هو وسيلة للمقاربة وحل الإشكاليات المستفحلة، وليس محاكمة تسعى لإدانة أيِّن من أطراف الصراع السياسي، ولهذا ذهبت الرؤيتان إلى ما هو أبعد من ذلك .. فالإصلاح أراد أن يقدم شريكه الأساسي في الحرب والفيد والإقصاء ضحية، ويبرىء نفسه من هذه الجريمة السياسية، بل إنه أراد أن يقدم نفسه على أنه التيار الذي يمتلك الرؤية والحصافة والقدرة على المراوغة والإقناع، وأنه الشاهد الأوحد على جرائم شريكه، وهو المدرك لعملية نشوء هذه القضية. بينما ذهب الشريك الأساسي لتوسيع جرائمه على كل الأطراف، ويبحث عن جذور القضية الجنوبية. والحقيقة أن القضية الوطنية ككل، لو بحثنا في جذورها سنجدها قديمة رافقت نشوء الثورة ومراحل البناء المختلفة، ولكن القضية الجنوبية نشأت أخيراً في دولة الوحدة، وتفاقمت في حرب صيف 1994م ، ويتحمل مسئوليتها التاريخية المؤتمر الشعبي وشريكه في الحرب الإصلاح، وكلا التنظيمان يتقاسمان حتى اللحظة ممتلكات الجنوب وثرواته.. وفي رؤيته يحاول الإصلاح أحياناً الاقتراب ذراعاً من الحقيقة، وأحياناً يبتعد عنها ميلاً، حينما يتعلق الأمر به، فاجتياح الجنوب ونهب ممتلكاته تم بالشراكة معه، وما يزال البعض منها تحت سيطرته فيحمل شريكه في الحرب والفيد المسئولية، ويتحول إلى واعظ وناصح، بل إنه غالى في الأمر واستخدم الدين وإصدار الفتاوى. وعلى الرغم من ذلك إلا أنه يعود ليقول بأن النظامين في كل من الشمال والجنوب اخفقا في بناء الدولة التي تستوعب في هيكلها مختلف القوى الاجتماعية .. بينما في مكان آخر يعترف بأن الجنوب أوجد دولة اعتمد عليها الشعب اعتماداً كاملاً في إشباع حاجاته من إنتاج الخيرات المادية ...الأمر الذي غاب معها ممارسة الفساد بأشكاله المختلفة كما كان قائماً في الشمال. أما الرؤية المؤتمرية حدث ولا حرج ..غابت عنها الرؤية والموقف الأخلاقي فقد ذهبت تخوض وبطريقة عبثية وغير واقعية في ماض لا علاقة له بالقضية الجنوبية. فالقضية الجنوبية نشأت تاريخياً في أحضان دولة الوحدة على إثر الحرب التي دمرت الدولة وحولتها إلى مشروع عائلي بامتياز، ووجدت على خلفيتها قوى طفيلية ظلت تعيش على فضلات هذا النظام العائلي والتداعيات التي أسماها .جذوراً للقضية الجنوبية وما تحدث عنه رؤيتا الإصلاح والمؤتمر هي القضية الوطنية وليست القضية الجنوبية قد يقول البعض بأن القضية الجنوبية هي جزء من القضية الوطنية ولكن القضية الجنوبية نشأت لاحقة للقضية الوطنية وفجرت وضعاً مأساوياً أزال الجنوب بثقافته وخصوصياته وكيانه السياسي وأوجدت مشكلة خاصة في كل محافظة وربما أسرة ..فالقضية الحوثية مثلاً بدأت في أسرة وانتهت في وطن بالكامل فالعملية عبرت عن الواقع المؤلم الذي وصلت إليه البلد في ظل سياسة الأسرة التي تقاسمت الثروة والنفوذ والجغرافية وخلقت وضعاً مأساوياً هو الأوحد في التاريخ البشري الذي اختلطت فيه السياسة بالعفوية والتهمت القبيلة الدولة. وبالطريقة التي دأبت عليها الأسرة في إدارة البلد والصراعات والانقسامات فيها...مضت الرؤية وبأسلوب إنشائي عدمي إلى سرد الوقائع والأحداث وتفشي الفساد بصورة مخيفة ..محملاً المسئولية نظاماً وهمياً وهو ما أدى إلى عدد من التصفيات والاحتقانات ...وصل معها الأمر حد تصفية الرئيس إبراهيم الحمدي في عملية حقيرة ومسرحية لاأخلاقية تلاه مقتل الغشمي ..وسكتت الرؤية عن مرحلة صالح وجرائمه وكذا جرائم المؤتمر الشعبي الذي شكل مظلة لجرائم صالح طوال فترة حكمه وعدم الاستقرار السياسي والاجتماعي منذ قيام ثورة سبتمبر في الشمال وانطلاق الثورة المسلحة في الجنوب وكل ذلك أدى إلى نشوء القضية الجنوبية كما تحدثت الرؤية المفقودة للمؤتمر. والعملية في تقديري لا تحتاج إلى كل ذلك العبث والمدخل غير الواقعي لرؤية تفتقر إلى أبسط المعايير الموضوعية ..والموقف الحواري في هذه القضية لا يتطلب التفسير اللغوي والفلسفي لجذور هذه المشكلة الآنية، وإنما يتطلب مقاربة وطنية وتوافقاً منطقياً حول القضية الجنوبية والدولة المدنية. فالمؤتمر لم يعتبر بعد بالثورة الشعبية السلمية، ولم يعترف بالتضحيات التي قدمنا على قاعدة الثورة واعتبر أن الثورة أزمة عابرة، كان عليه أولاً الاعتراف بالثورة كشرط أخلاقي للاعتراف بالقضية الجنوبية والقضية الوطنية عامة.. فكيف يمكن أن يكون شريكاً في مصالحة واقع معقد تسبب هو في أحداثه إذا لم يعترف بالثورة التي أحدثت هذا التغيير وتطلبت هذا الموقف الحواري. في الجنوب وجدت قبل الوحدة دولة بكل مكوناتها ومضامينها، ولا مجالً هنا للحديث حولها وحول ما رافقها من أحداث.. المطلوب هو معرفة الأسباب الحقيقية للقضية الجنوبية وطرق معالجتها. والقول بأن في الجنوب جرت تصفيات بناء على البطاقة الشخصية، هذا موضوع آخر ويستهدف تعميق المشكلة وليس حلها، لأن هذا سيجعلنا نترك القضية الأساسية وندخل في قضايا الانتهاكات غير الأخلاقية في كلا الشطرين سابقاً، في الشمال جرت تصفيات على نار هادئة، وإخفاء قسري للمئات من المعارضين وهذا الوضع مازال قائماً وما رافقه من أساليب لمحو ذاكرتهم وتغيير شخصيتهم كما تبين في حالة المخفي قسرياً المناضل مطهر الإرياني الذي وجد مؤخراً بالصدفة. فالقضية الجنوبية يتحمل تبعاتها وأسبابها نظام صالح باعتباره المسئول عنها بعد إقصاء شريكه في الوحدة.. واستمر فيها بعد إقصاء الشريك الآخر في القضية الجنوبية وما ترتب عليها من أبعاد سياسية وأخلاقية. رابط المقال على الفيس بوك