“الشريعة الإسلامية مصدر جميع التشريعات”.. تعيش هذه المادة وهي الثالثة في ترتيب الدستور الحالي, جدلاً حول وضعها في سياق الدستور القادم, وزاد هذا الجدل من حدّته مع تقديم الأحزاب السياسية رؤيتها لفريق “بناء الدولة” حول هوية الدولة, لست ضد الجدل حول هذه المادة فهو مفيد في كونه نقاشاً عاماً نقلّ رؤى الأحزاب من الغرف المغلقة ايديولوجيا الى نوافذ الحوار وشوارع الشعب, لكني فقط ضد حصر هذا الجدل بين تطرفين نخبويين؛ الأول يقدم نفسه مع الشريعة ضد المدنيّة وينصب ذاته محامياً عن الإسلام, والثاني يقدم نفسه ضد الشريعة مع المدنيّة منصباً نفسه محامياً عن الحداثة. ما خفف من حدّة الجدل الدائر حول الشريعة, هو اتفاق الاحزاب السياسية على الملامح العامة لهوية الدولة, لكن هل هذا الاتفاق أنهى هذا الجدل؟ ,لا, في اعتقادي أن الخلل يكمن ليس في الشريعة أو المدنيّة؛ بل في من يقدمون أنفسهم حماة المدنيّة وحماة الشريعة, بالتأكيد هناك تخوفات مشروعة ليس من الشريعة بل من مسألة “تطبيق الشريعة”, فعلى مرّ التاريخ الإسلامي حصلت تراكمات تاريخية لازمتها تطبيقات سيئة أساءت إلى الشريعة وأضحت لصيقة بها, الخطورة تكمن في كون “حماة الشريعة” يدافعون عن تلك التطبيقات السيئة باعتبارها نماذج حيّة للإسلام, ويؤصلون لتلك التراكمات التاريخية باعتبارها مواطن استدلال لكيفية نجاحها, ولا ينسون ترديد العبارة الشهيرة “الشريعة صالحة لكل زمان ومكان”. يبدو الأمر هزلياً ومحامو الشريعة يدافعون عنها بتلك الطريقة المسيئة لها, لكن بالمقابل يبدو الأمر مضحكاً ومحامو المدنية ينافحون عنها بذات الطريقة المسيئة للمدنية, مما يؤكد أن العقلية التي ينطلق منها الطرفان واحدة, تستند على الوصاية, التي تستلزم احتكار الحقيقة, وتستدعي إقصاء الآخر, وتذهب لاستدعاء صور الماضي, كحجج, لبقاء الشخوص, ومصالح الجماعات, فحماة المدنيّة مصرون على أن الشريعة هي فقط تلك التطبيقات السيئة لتاريخ الإسلام, حسناً, نحن ضد هذه التطبيقات ويجب أن نكون كذلك, لكن.. لماذا يتجاهل بعض المدنيين الجانب الحضاري لتاريخ الاسلام, ولماذا يتعاملون مع الرؤى الضيقة التي يقدمها حماة الشريعة ولا يتفاعلون مع الرؤى المنفتحة لتيار عريض من الإسلاميين, يتجاوز الأمر هنا مسألة النقاش المعرفي والمطلوب حول الشريعة الى الكيد السياسي والسجال العدائي حول شخوص الشريعة. نحن في معركة أيدولوجية غير نزيهة حول الشريعة. طرفاها لا علاقة لهم بالمدنية ولا بالشريعة, فاذا كانت الحرية والمساواة هي روح الشريعة والمدنية معاً, فإن الحرية والمساواة آخر ما يفكر بها مشائخ الدين ومتفلسفو الحداثة, ولذا تجد أن الجميع يقف مع انتهاكات حقوق الانسان بقدر قربها من الجغرافية الفكرية المقدسة لخصمه, ويقف ضدها طالما دخلت نطاق بيئته المقدسة, وهذا التعصب المقدس يجعل الوعي الدستوري غائباً عن عقلية الطرفين, وهذا الوعي هو ما يحتاجه الدستور الذي يجب أن يصاغ في بيئة قانونية حرّة ومتزنة تمتلك الجرأة لتنتصر للمواطنة المتساوية, وليس لأوهام المتعصبين للمدنيّة أو الشريعة. لقد أصبح من الضروري أن يتواضع بعض العصبويين الإسلاميين, ليدركوا أن هناك فوارق, بين الاسلام كمفهوم حضاري يترابط مع العروبة والتراث الانساني؛ وبين الشريعة كمنظومة قانونية خاصة بالمسلمين, كما أن هناك فوارق بين الشريعة كفلسفة تشريعية لها مبادئ كلية ومقاصد خاصة؛ وبين الفقه كاجتهاد تاريخي له سياقاته الخاصة, وهذا الخلط الذي مرجعه احتكار الحقيقة الدينية؛ سبّب نشوء الكثير من التخوفات المشروعة والمخاوف غير المشروعة من تطبيق الشريعة, وفي المقابل فإن على بعض العصبويين المدنيين, أن يعوا أهمية التفريق الجلي بين الإسلام والحركات الإسلامية, وبين الشريعة وتطبيقاتها, وبين الرؤى المتشددة والمنفتحة للفكر الإسلامي, وأن هذا الخلط الذي مرجعه احتكار حقيقة الحداثة؛ سبّب نشوء الكثير من الاعتراضات المنطقية على المدنيّة والعدوات غير المنطقية لها. وإذا ما عدنا إلى المادة الثالثة من الدستور الحالي, فإن الواقع الحالي يبين أن هناك فهوماً مختلفة لتطبيق الشريعة, وتصارع هذه الفهوم في ظل عمومية كلمة الشريعة, جعلت بعض الدول تشهد صراعاً دموياً سببه “تطبيق الشريعة”, وحتى نتجاوز نحن في اليمن سوآت ذلك الصراع الدموي؛ أتقدم باقتراح ربما يساهم في وضع بيئة آمنة لهوية الدولة. أعتقد أن المادة الثانية التي تقرر أن "الاسلام دين الدولة" كافية لتحديد هوية الدولة اليمنية, وأن المادة الثالثة هي تأكيد لحاصل, ولكون المادة الثالثة يكتنفها الغموض حول كيفية تطبيق الشريعة وبناء على أي فهم, فإنني أقترح إعادة صياغتها على الشكل التالي: “المبادئ الكلية للشريعة (الحرية والعدل والمساواة) المصدر الرئيسي للتشريع”. وهذا الاقتراح فقط,, لمن له عقل رشيد.. يهمه أمن الوطن, وروح الشريعة, وقيم المدنية,وأهداف الثورة. [email protected] رابط المقال على الفيس بوك