للحراك الجنوبي إيقاع لاهث، أقحم في صفوفه أعداداً هائلة من البشر في المحافظات الجنوبية، وحتى في التخوم القصية لبعض المحافظات الشمالية، بيد أنه يمضي في فضاء ملؤه الفوضى، ويولغ في عمى شديد، يعجزه عن بلوغ الأهداف، لا لجنوح تيارات فيه إلى العنف فحسب، إنما لخلو تكتيكاته من أيما حنكة سياسية. كان الحراك قد بدأ متواضعاً بمطالب حقوقية بسيطة، لكنه كم كان ممتلئاً بدلالات المستقبل، وأنتج زخماً ضافياً، ألهب شرارة الزلزال السياسي العارم العام 2011م ، واستتباعاته التي أفضت لحوار شامل ، غير أن مآلاته تكاد تحرمه ثمرةً كان أول من بذرها، بمقاطعة فصائل منه لفعاليات الحوار، مدفوعة بنزعة حدية لا تقبل أنصاف الحلول، وبإصرار مخيف على الانفصال كمطلب وحيد، تنعدم إزائه خيارات أخرى، في منهجية عمياء تماثل ما كانت عليه حركة الخوارج في الأمد العميق والمبكر للدولة الإسلامية، حينما استعاضت عن روح السياسة ومرونتها، بنزعة بدوية بالغة الحدية، لا تقبل حواراً ولا تحكيماً.. عمدت إلى افتئات الواقع إلى آخر غيبي مغلف بطابع ديني في أن الحاكمية فقط لله، وفق منطق عدمي يرفض الحكومات الدنيوية، ولا يطرح بديلاً لها، فكان خروجهم من التاريخ السياسي، رغم أسبقيتهم في تأسيس أول حزب سياسي إسلامي. انعدام الرؤية السياسية لبعض الحراكيين، تأتي خلافاً للحركة الحوثية المتماهية معه، فالحوثيون علاوة على أنهم الأكثر حظاً من حركة التغيير، فهي أتاحت لهم تمدداً غير مسبوق، وبعدما كانوا محاصرين في جبال مران بصعدة، أضحوا يصولون في الصالات الفخمة لفندق موفمبيك في قلب العاصمة، بمشاركة فاعلة في مؤتمر الحوار، التخريج الأهم للمبادرة الخليجية، التي لا ينفك الحوثيون يعلنون رفضهم لها.. في موقف يبدو متناقضاً، لكنه يستطبن داخله براعة سياسية فائقة، وسعياً محموماً للاستفادة القصوى من مخرجات ثورة الشباب.. فيما فئات من الحراكيين، توشك ان تفوّت على نفسها وسائر اليمنيين حصاد نتاج أهم حدث في التاريخ المعاصر، بجعل الباب موارباً لملء المقعد الشاغر من قبل الأطراف ذاتها التي أنتجت أزمة الجنوب وسائر متواليات أزمات اليمن لتكييف مخرجات الحوار لما يحقق بقاء مصالحها المتراكمة ، بل إن نزعتها الحدية وانعزاليتها عن الواقع هو ما جعل الآخرين يتصدرون للحديث عنهم بالإنابة، إذ قبل أيام أعلن ناطق الحوثية تعليق مشاركته في فريق القضية الجنوبية بحجة عدم الاعتذار للجنوب عن حرب 1994م. سطحية الحجة لا تتأتّى من كونها استجداءً لشيء من غير أهله فحسب، باعتبار الأطراف المطالبة بالاعتذار هي من أنتجت أزمة الجنوب وما تزال تعمل على تغذيتها.. بل لأن اعتذاراً كهذا لن يساوي حال حدوثه ثمن الورقة التي سيُكتب عليها، ذلك أن الحوار أفرز واقعاً جديداً، تتمفصل فيه القضية الجنوبية وقضايا غيرها في مقدمة مرامي الصياغة الجديدة للدولة الهادفة إلى بناء وطن يتسع للجميع... تلك الغاية الكبرى للحوار، التي ينبغي تكثيف الجهود لتحقيقها، وعدم السماح بتعطيل مسار الحوار حتى بذريعة القضية الجنوبية التي يراد لها أن تظل عقدة مستحكمة تعيق مساره. رابط المقال على الفيس بوك