تحتكر السلطة الخطاب، مع ذلك يتشكل فراغ تحاول أن تسده أطراف أخرى، ليتشكل خطاب معارض لا يلبث أن يصير مُحتكراً.. وعلى سبيل المثل، حددت السلطة شكل الوطنية، بممارساتها القمعية المباشرة؛ عقاب المعارضين باعتبارهم خارجين عن القانون، ومارست عنفاً تجاوزت فيه شكل القانون، كما ظللت انتهاكها العام، بتبريرات مثل الحفاظ على الأمن، أو الحيلولة دون الفوضى، لكن مع تحول التشكيك المستمر في وطنية السلطة القائمة، انطلق الخطاب المعارض ليفرض نفسه كوصي على الوطنية. نحن نتحدث عن الدولة الوطنية الشكلية.. فاليسار تحول خطاباً وطنياً متغطرساً.. وراهن الخطابان على أرضية سياسية مختلة، تداوم على مواجهة لا تتبرأ حتى من العنف.. وعلى هذه الارضية، نظام مختل ومعارضة مشوشة، استفادت الأصولية من حالة الكبت العامة، كما وظفت الجهل وكل أشكال العوز لإنتاج أشكال عنف مبطن بالدين. يفترض الخطاب الديني خطوط حمراء لا تمتلكها أي قوى استبدادية. وإذا كانت الثورة عرضة للسقوط في وتيرة عنفوانها، مدعمة بيقين الخوف من قوى رجعية.. فعلى الضد من ثورة اليسار احتكرت سلطة الخميني الدين والثورة، وصاغت علاقة جديدة بين المجتمع والسلطة.. فسلطة الشاه المحتكرة، صارت بوكالة الإمام المنتظر، وبارتباط مباشر مع الرب.. في الامبراطوريات القديمة، كان الصينيون يعتقدون أن أباطرتهم أبناء الآلهة، وهذا ما فعله الاسكندر، متأثراً بطابع ملوك فارس، كما هم ملوك الشرق القدماء، تم توظيف هذا التراث الهائل وإعادة صياغته في الاسلام الشيعي. في لحظات المد القومي أثار خطاب عبدالناصر، يقيناً صاخباًَ، يراهن على مصير الثورة. كانت الثورات تنبعث من كل مكان، وكان هو الشخص الملهم لها.. ومع أنه أراد تحقيق انجازات اقتصادية متمثلة بالسد العالي، فقد اعتقد أن مشروع النهضة والثورة ملتحمان.. وأفضى الأمر إلى تعثر في النهضة.. أراد الخميني أن تكون ثورته شكلاً آخر للتصدير.. وأراد أن يملأ الحيز الذي خلفته معاهدة «كامب ديفيد»، إنما ببعد إسلامي يستطيع تجاوز العقبة القومية.. غير أن الصيغة القديمة لليسار أخذت طابعاً مستمداً من مشاعر عالمية مناهضة للامبريالية الامريكية وهيمنتها، وانفتح على شعاراتها، كان متوافق كلياً مع أشكال أخذت تزحف في العالم الثالث عبر آسيا وافريقيا وامريكا الجنوبية. إشكالية الثورة الاسلامية الايرانية، هي في اختلاقها هوية ذات طابع ديني بحت، فكان الانطباع عن شكل اسلامي ذي وجهة شيعية، تمثله الحوزات.. في الواقع تزامن الصعود الاسلامي الشيعي الى السياسة، مع ازدهار حركة الجهاد الافغاني ذي الطابع السني، لكن الأخير يحاول أن يرث طبيعة الممالك والأنظمة الموالية للسياسة الامريكية، حتى وإن ظهرت حركة القاعدة التي حددتها واشنطن كعدو رئيسي لها، ليست هناك لدى الامريكيين إشكالية عميقة مع حركات دينية مزدهرة بالتطرف، بل عملت على مساعدتها، ومثلت ثروة المنطقة، الداعم الأساسي لها، بل كان الخوف أن تشهد المنطقة أتاتورك جديداً، كما صرحت بها مراسلات بين اسرائيل وامريكا.. أن يكون هناك توجه آخر للحداثة في المنطقة، وكان صعود القوى ذات الطابع الديني، يعني انحداراً ثقافياً واجتماعياً.. لنرى المشهد الأفغاني، وهو يترنح بوضع فاشل. بالنسبة للدولة الايرانية، حافظت إلى حد ما، على طبيعة قوتها وسطوتها. لكنها تؤكد، وإن حاولت أن تكون وجهاً مقاوماً للولايات المتحدة، بأنها لا تمثل مشكلة حقيقية بالنسبة للغرب، وهو ما قاله مثقفون فرنسيون لعرب، حسب صادق جلال العظم، بأن الغرب ليس لديه مشكلة مع الخميني، كما أن الولاياتالمتحدة ليست لديها مشكلة مع القاعدة، وليس هناك مشكلة مع شعار “الموت لأمريكا واسرائيل”.. المشكلة الحقيقية تتمثل في نشوء دولة قوية. إذا أردنا أن نحلل طبيعة الاخفاق للخطاب اليساري، أو حتى لخطاب السلطة ذات الطابع السياسي المتغطرس المتحالف مع الامبريالية، فإننا سنرى اخفاقاً على صعيد بنية الدولة، المشوش العام في بناء مؤسسة دستورية، سواء كانت ذات طبيعة السوق المفتوح، أو الاشتراكية. الاشكالية العميقة مع صعود الخطاب الديني، انبعاث انقسامات واحتقانات طائفية ودينية. انقسام مدعم بثروة النفط والغاز.. فهل تتحول ثورات الربيع العربي، الوجه الآخر لثورة الخميني؟ ما أعلنه الرئيس المصري محمد مرسي وهو يصف الشيعة ب «الرافضة»، يعبر عن لاوعي، يستدعي كل جذور الصراع الطائفي الاسلامي. وهنا المشهد يؤكد، شكل الصراع القادم.. ما ينضج اليوم صراع مذهبي، بينما طبيعة الصراع كانت ذات استراتيجية جغرافيا. ما يحدث أن الخطاب الديني، يطفو كالضباب على مصالحنا. لم يكن فشل الدولة طابعه ديني أو طائفي، كما نرى، بل في طبيعة علاقة المواطن بالدولة، وما تخلقه من شروط مشتركة، لكن حين يستحوذ الدين على المشهد، أو الايدولوجيا. فإن نظاماً ككوريا الشمالية، يظل بقاؤه، على شروط الجوع. وهو ما يحدث في ايران.. فالمشهد القاسي يعلن استراتيجية غير واقعية، تتمثل في صراع مع الشيطان الأكبر، أو في مواجهة غير متكافئة لنظام امبريالي، فيكون وهم السلاح النووي معيار البقاء، وهو ما حققته شروط الدولة الدينية في باكستان. حشد الشعوب وراء لاواقعية خطاب الدولة، لكن ذلك الحشد، يأخذ مصيراً مميتاً، عند تحوله انقساماً طائفياً ودينياً، كما يحدث في المنطقة، وبالتحديد في سوريا.. وهذا ما حدث في العراق؛ اعادة انتاج الدولة الطائفية على حساب الدولة الوطنية، ومن هنا يتشكل خطاب هلامي مثقل بالايديولوجيا، وفي اليمن على سبيل المثل، مشكلتنا تتعلق بالفقر، وليس في إعادة إنتاج انقسامات موجودة. لنرى ما سيحدث في المستقبل. رابط المقال على الفيس بوك