بعض مثقفينا العرب أصبحوا أسرى مواقف عصبوية تقليدية تمنعهم عن تمثُّل المعنى الحقيقي للتنوير والثقافة, وهذا هو أحد الأسباب التي أعاقت حركة النهوض والتطوّر في المجتمع العربي؛ لأن من يصف نفسه ب«المثقف» في هذه الحالة يعتقد في قرارة نفسه أنه قد امتلك الحقيقة الكاملة وغيره واهم ومتحجّر وجاهل, وعليه تقتضي نهضة الوطن بحسب زعمه تمكين صاحب الحقيقة وإقصاء صاحب الوهم. الثقافة التي يدّعيها كثيرون اليوم ثقافة مشلولة وإن كانت دسمة, لأنها أولاً لا تحملهم على الجهر بالحق ولو على النفس, ولأن طبع الشخصية العربية يتغلّب على ثقافة التنوير والانفتاح بثقافة التعصُّب للأيديولوجيات, وبالتالي يعرف الرجال في مواقف الحق, فهذا يبدو مثقفًا حرًا لا يتخلف عن المجاهرة بالحق ولا يردّد ما يقوله المحيط الذي يلتزم بالانتماء إليه, وذاك يبدو مثقّفًا مأزومًا يصرُّ على موقف غير منطقي قصر نفسه عليه؛ فقاده إلى تزيين الباطل وتأويل خطواته غير المقبولة, فالمهم عنده أن يظل صلبًا أمام أية حقيقة تلزمه بالعدول عن موقفه والإقرار بالحق. انظروا إلى المشهد المصري اليوم لتجدوا مجاميع من المثقفين والكتّاب والإعلاميين والخبراء والمحّلين المصريين والعرب يداهنون سلطة الانقلاب اليوم، ويحرضون على قتل المصريين الذين خرجوا للتعبير عن آرائهم بسلمية دفاعًا عمّا يعتقدونه حقًا شرعيًا ينبغي أن يعود, وانظروا كيف تتعدّد آراء أولئك المداهنين وهم يبحثون عن الطرق الحاسمة لإسكات هؤلاء الرافضين وفض اعتصاماتهم وإيقاف مسيراتهم إلى جانب تلفيق التهم لهم ونشر الأكاذيب التي يريدون أن تكون مسوغات واقعية لكسر شوكتهم. التقارير الاستقصائية لبعض المراكز البحثية أجرت حسابًا دقيقًا لمن خرجوا للتظاهر في 30 يونيو في ميدان التحرير وغيره من الميادين ضد مرسي ونظامه, مستخدمين «جوجل إرث» لقياس مساحات الميادين وتقدير حجم اتساعها لأعداد البشر بناءً على مقاييس حسابية عالمية, فوجدوا أن أعلى تقدير للمتظاهرين لا يتجاوز أربعة ملايين متظاهر؛ برغم أن التجهيز لخروجهم كان الاستعداد له منذ بضعة أشهر, وبذلك انكشفت الأكاذيب والتزييف الذي كان يتحدّث عن 33 مليون متظاهر، فلماذا لا نقر أن ما بُني على باطل هو باطل, والكذب لا يأتي بخير, ومصائر الشعوب لا ينبغي أن تُبنى على التزييف والتلفيق, الصدق دائمًا – وهذه كلمة للجميع – هو الطريق الوحيد إلى الخير, وأي طريق غيره لابد أن يواجه الفشل مهما طال الأمد. ليس المهم مرسي أو قيادات حزبه, وإنما المهم الأساس الذي ينبغي أن تقوم عليه مصر ما بعد ثورة 25 يناير؛ ليسير المصريون إلى المستقبل بخطوات واثقة وإرادة حرّة لا تلوي ذراعها أية قوة إقليمية أو غربية، هذه مصر نبض الأمة العربية والإسلامية ورائدتها الأولى, فيكفيها تعثرًا وتآمرًا عليها ومحاولة تدجينها وكبح جماحها من بعض أبنائها قبل أعدائها الخارجيين. اليوم قطاعات وجماهير كبيرة من الشعب المصري تنتفض تحت شعار «عايز صوتي» رافضين هذا الواقع الانقلابي الذي يرونه تهديدًا لوطنهم ومستقبل أبنائهم, وأولئك الذين يسمّون أنفسهم «مثقفين» يصرّون على أن من يتظاهر اليوم هو إخواني؛ وكل تلك الجموع جموع إخوانية, حتى وإن كانوا “إخوانًا” فقط هل ينبغي إسكاتهم، وإذا لم فمواجهتهم بالقتل والتنكيل تحت مبرر حماية الأمن القومي المصري؛ أليس هؤلاء الرافضون للانقلاب مصريين, ولهم من الحقوق مثل التي للذين خرجوا إلى ميدان التحرير، أليس في قتل المواطن المصري تهديدًا للأمن القومي المصري؟!. إذن فأقل القليل أن تقبلوا بواحد من مبادئ الديمقراطية التي كنتم تتشدقون بها سنينًا, اقبلوا بحق التعبير والتظاهر والاعتصام, وواجهوا الحقيقة حين تجدون مصر تتحوّل كلها إلى ميادين للجموع المصرية - وليس الإخوانية كما تتصوْرون – التي تقول: لا للانقلاب العسكري, لا للوصاية على الشعب المصري الحر في اختيار من يحكمه, لا لإذلال المواطن وامتهان كرامته بعنف الشرطة وجبروت الجيش، الحق أحق أن يٌتبع, وتعسًا لكل الأفكار والثقافات التي تحول دون أن يجاهر المثقف بالحق أو يعترف به. [email protected] رابط المقال على الفيس بوك