أسهل حاجة في مجتمعنا العربي هي الاختلاف، وبإمكان الباطل أي باطل مهما كان تافهاً أن يجد له أنصاراً ويتحوّل عند البعض إلى مصدر رزق وارتزاق؛ وهذه هي المصيبة، فتُقام من أجله معركة، ويقسم الناس إلى فريقين؛ ليس لأن الباطل تافه؛ بل لأن الناس يكونون تافهين وفي أدنى مراتب إنسانيتهم, عقولهم في إجازة وضمائرهم معتقلة، يُساقون بعصبياتهم وبتوهُّم أنهم عظماء، يدافعون عن أشخاص وقضايا وهمية لا تعني لحياتهم شيئاً؛ يعدّونها كبيرة؛ متناسين أن العظمة هي في اتفاقهم على مصالحهم المشتركة والدفاع عن حقوقهم، والإبداع في العيش المشترك، والتعاون على القواسم المشتركة وليس في البحث عن إثارة مفتعلة ومعارك وهمية. سيظل العربي عربياً مثل «الحمار» عقله في رقبته ورجليه منذ أن أقاموا حرباً أكلت الأخضر واليابس، واستمرت الحرب أربعين سنة من أجل ناقة سبقت أختها، ذهب الزمن وماتت النقتان المتسابقتان، ولم تحقد إحداهما على الأخرى ولم تسألها: لمَ سبقتيني أيتها اللئيمة..؟! فهما ليستا «إنساناً عربياًَ» بل حيوانات وأنعام عربية محترمة..!!. أريد أن أسجّل رواية قديمة ذكّرني بها أحد أصدقائي الظرفاء؛ وهي تحكي أن شخصاً خرج من مطعم بعدما دفع حساباً باهظاً لأكلة لم يأكلها بسبب مرض في معدته؛ لكنه شاهد فقيراً في جانب المطعم يأكل خبزاً يابساً بلذّة كبيرة وشهيّة كأن أكلة الملوك بين يديه، أخذه الحسد على الحالة السعيدة التي لم يجدها في ماله وكثير من مصائبنا أمراض نفسية بدوافع الحسد والحقد وما شابه عاد إلى صاحب المطعم وأقنعه بأخذ مال من الرجل الفقير بحجة أنه إنما يأكل بهذه الشهية بسبب رائحة الشواء واللحمة والبهارات التي تنطلق من مطعمه وهي بثمن؛ ولو أنه في بيته ما أكل بهذه الصورة، اقتنع صاحب المطعم بهذا القول الباطل المدعوم بالمصلحة والطمع، ولم يدرِ المسكين إلا وصاحب المطعم يطالبه بقيمة «رائحة الشواء» الذي أكل به..!!. هنا وأمام جدية صاحب المطعم انقسم الناس إلى قسمين؛ قسم مع صاحب المطعم، وقسم مع الرجل المسكين الذي أكل «عاسه بأسنانه» في الشارع، اقتنع البعض بتبريرات وتهديدات باطلة من صاحب المطعم ومعه الرجل المحرّض الذي أخذ يشرح الحق باسم «حق الرائحة والشم والهواء» وأن هذا حق معترف به قانونياً، وأخذ يؤلّف نصوصاً قانونية من رأسه؛ ومع أن صاحب المطعم قوي وذو مال زاد مويّدوه، بعضهم يكتفي بالقول: «إن الحاج لا يكذب» دون أن يُسأل، المهم الحاج معه حق، ولم يعدم من يتبرّع أن المسكين «متشعبط ونصّاب» انتقلت القضية إلى الوالي؛ ولأن التعصُّب دخل في نفوس الناس؛ امتلأت بيت الوالي وأمامها بالمؤيد والمعارض؛ كل يهتف باسم صاحبه، ومع الأيام تحرّكت المسيرات المؤيدة لصاحب المطعم وأخرى مدافعة عن الرجل الغلبان الذي نسي ما فعل، حوّل الوالي القضية إلى القضاء لأنه عجز في تقديم حل؛ ليس لأن القضية معقّدة؛ لكن لأن القضية لا وجود لها سوى تعصُّب الناس إلى الباطل وضياع عقولهم؛ وهو أمر يصعب الفصل فيه، وقديماً قيل: «الذي ما عنده حق ما تعرفش تراضيه» استلم القاضي القضية وتقدّم المحامون يترافعون عن حق صاحب المطعم والمدافعون عن الرجل الذي لا ذنب له سوى أنه فقير معافى في بدنه، لم يعدم محامو الباطل من قواعد قانونية يقدّمونها ويفلسفون الأمر؛ على طريقتهم ازدحم الناس أمام المحكمة ووقعت احتكاكات وصدامات ذهب فيها قتلى وجرحى، وانتقلت المدينة إلى ثأر ودماء وقاتل ومقتول؛ صعب الأمر وضاعت مصالح الناس، وانتشرت أعمال الانتقام والتقطُّع وضاع الأمن والأمان، وكان الهارب من المدينة ب«قرش» كما يُقال. والسبب عقول تافهة وخاوية وأرواح خربة «عرب جرب من شافهم هرب» تجدهم يتحاربون على الصور والتماثيل والأشخاص الأحياء منهم والأموات، ويبدّدون طاقاتهم ومصالحهم ويقطعون أرحامهم وعراهم بسبب باطل مثل باطل «صاحب المطعم» والمشكلة أنهم يعتبرون أنفسهم أبطالاً وأذكياء وعباقرة، يصنعون قضايا من العدم، ويخوضون معارك مضحكة؛ بل مخزية بفعل الهوى والمصلحة، بل هم مثل «شم المصلحة وعرف الشواء» ليعملوا لها أيدي وأرجلاً وعيوناً واذاناً. [email protected] رابط المقال على الفيس بوك