بعيداً عن قناعاتنا بالحرية، ما قام به المأمون ناشئ عن جبروت الحاكم المطلق، فهو يدعو فقيهاً كابن حنبل ويطلب منه أن يؤمن بخلق القرآن ثم يعذبه. وهذا ناشئ كذلك من إيمان مطلق بفكرته، بينما ما فعله قسطنطين في روما هو كذلك إدراك سياسي بخطورة أن يتحول الاختلاف الديني في مجتمعه انشقاق سياسي. المثير كيف استطاع أن يعلن المسيحية كدين للدولة، دون أن ينشأ عن ذلك انشقاق أو صراع مع رجال الدين القديم. هل فعلاً أنتج دمجاً بين الدين القديم والمسيحية، أو استطاع قمع أية حركة ناشئة ضده من كهنة المعابد. فأنتج صيغة دينية تناسب روما. مع ذلك، اعتبر البعض التحول المسيحي صورة للتدهور الروماني. هل كان المأمون يشبه اخناتون، عندما أراد توحيد الآلهة في آتون «الاله الشمسي». فالتحول الديني في مصر، كان يراهن على تقويض سلطة كهنة آمون، وبدأت الصراعات السياسية تتربص بنقمة رجال آمون، وحاولت الدسائس في القصر أن تجد لنفسها مسمى «غضب آمون» أو انتقامه. فإعلان الأرباب عودتهم لا يُعلن في نقمة غيبية يمكن تأويلها، بل ثمة تدخل للبشر أيضاً. واخناتون الذي ورث امبراطورية تبلغ حدود الفرات شرقاً، غرق في حب آتون، مهملاً شئون حكمه، حيث بدأت غارات البدو والحيثيين تتاخم مملكته، بينما لم يكن المأمون ليتساهل ضد أعدائه. مع ذلك، ثمة شرخ حدث في جدار الدولة، ويمكن أن يكون لذلك التحول غير المدروس ردات عكسية، فالمتوكل ابن المعتصم عاد وانقلب على المعتزلة وساهم في نقمة تلاميذ ابن حنبل. وبدأت الدولة العباسية تتهاوى تحت هيمنة الأتراك الذين أراد المعتصم أن يكونوا حربة دولته. هل بدأت أوغل في التشتت؟ ربما الشتات هو كذلك شكل. لكن لماذا لم ينتبه الملوك الحميريون وهم يتحولون دينياً في إعادة إنتاجه بزي وطني. فقد انجرفوا لنزوات حمكهم، وأراد الملك أن يعيد رسم ذاته في جذره المكرب، أي صورة الرب في الأرض، أو ابنه. هكذا كان الساميون يحتاطون لملوكهم نصف إلهي ونصف بشري. فالملك يتحدث باسم الرب، ويمكن أن يكون هو نفسه تجسد كامل له، كما لدى الفراعنة، وفي نقش النصر تحدث كرب إل وتر باسم إلهه المقة. وكذلك تحدث إبراهيم باسم أبيه، كما تبعه إسحاق ويعقوب، كما تصور لموسى وسط جبل في سيناء. الانشقاقات الدينية أيضاً تجد لنفسها ملاذاً وطنياً. يقول الروماني اميل سيوران عن الانشقاق المذهبي بأنه ليس اختلافاً مذهبياً بل إرادة إثبات ذات اثنية. كثير من الانشقاقات الدينية هي «صراع قوميات متنكر» بتعبير سيوران؛ إذ يؤكد أن الروس وجدوا في الارثوذوكسية شكلاً من «الانفصال عن الغرب»، ومع سقوط القسطنطينية ورثت موسكو المركز المسيحي الشرقي. راهنت موسكو على أن تكون قطباً سياسياً، فكانت قطباً دينياً. فالأتراك استطاعوا إيجاد صورة سنية للخلافة تلغي هيمنة سلالة القرشيين، التي أرادت كذلك التقوقع لدى الشيعة في سلالة العلويين من الحسين وأحياناً الحسن. وهذه الصيغة عبرت عن نفسها في الذات الإيرانية القومية، حين جاءها التحول الشيعي. فبعد أن ظلت إيران سنية لقرون وجدت ملاذها في التشيع للانفصال عن الخلافة العثمانية. يمكن للقوميات أن تثأر للحظات سقوطها، فعندما اجتاحها العرب دخلت الإسلام، ولم يصمد أقصى الشمال المتغطرس بالقومية الفارسية؛ إذ دان هو الآخر، راضخاً لعقيدة المنتصر. في الواقع، تتربص القوميات أو الوطنيات لإعادة صياغة ذواتها وتشبه تحولاتها الهجرات الكبيرة. فقد شكلت إيران على مدى قرون بؤراً للانشقاق المذهبي عن المركز الإسلامي السني، وحتى الشيعي عندما انشق الحسن الصباح في قلعة آلموت عن إسماعيلية الفاطميين في القاهرة. كانت تقاوم، مع ذلك استسلمت لأن تكون أرضاً للغزاة، فقد سقطت للإسكندر قبل أن تسقط للعرب، لكن مع العرب انساقت دينياً، وعندما كان لأبي مسلم الخرساني نزوع قومي، إلا أنه سرعان ما سقط في القبضة العباسية. يدين العباسيون لحكمهم لاستثمار نقمة القوميات من الهيمنة العربية التي مثلها الأمويون، حتى إن الأموية كانت أكثر تحيزاً للقومية العربية. في الواقع لم يسمح العباسيون لأن يكون هناك قائد يجمع الفرس، فقتل المنصور الخرساني، كانت العباسية أقدر على تنويم الذات الفارسية، فانتصر الفرس لأنهم أخوال المأمون على العرب أخوال الأمين. أي دهاء عباسي في ذلك، أو أن مجموعة مصادفات، فمازالت طبيعة الخلافة تتمأسس على مركزية قرشية يصعب التمرد، وانتظرت أيضاً زحف التتار للتخلص من تلك القبضة، حتى إن الممالك التي نشأت كانت تراهن على تملق هذا المركز، وتظل محتفظة بالخلافة المتهاوية اسمياً لتحظى بشرعية. ربما كان الأتراك هم الأكثر مقاومة، فبدو السهوب، ربما كانوا أكثر تعشطاً للحرب، وكعادة قبائل الهان، المغول والأتراك يجمعهم ذلك الحس النهم للقتال. فأعاد الأتراك صياغة وجودهم، حتى إنهم لم يكونوا بحاجة لأي انفصال، بل صاروا بعد التعايش مع المركز القرشي الاسمي، إلى مركز. أما فارس فبعد أن تناوب على حكمها السلاجقة والخوارزميون الأتراك، ثم تدحرجت تحت خيول المغول، هولاكو، كذلك تيمور لنك، انفصلوا عن مركز الخلافة العثمانية بصيغة تركية كذلك. لم يكتف الصفويون الأتراك بحكمها، بل أعادوا رسمها مذهبياً. كان الترك يشكلون كذلك القبضة العسكرية للدولة في إيران. ومع الصفويين العائدين لأصول تركية، أُجبرت فارس أن تكون شيعية، وبالتركيبة المذهبية تم إعادة صياغة القومية الفارسية. حتى إن عباس الصفوي كان يسير بقدميه إلى مراكز المدن الشيعية معلناً عن حجهم الخاص. وفي الشمال الأقصى ناحية الشرق، مركز التعصب الفارسي، ولدت عواصم الدين الشيعية. وفي لحظة ما استطاع نادر شاه وهو أحد ملوك فارس والذي يعود كذلك لأصول تركية اجتياح نيودلهي. واليوم سلبت قُم كمركز شيعي، مكانة النجف، ويمكن للسياسة كذلك أن تمارس هيمنة من أروقة الدين. أحياناً ليس بالضرورة أن تكون قومية الحاكم، تنتمي للبلد الذي يحكمه، غير أنه يعي هذا البعد القومي فيؤسس عليه مملكته. رابط المقال على الفيس بوك