والسيارة تنهب الطريق في اتجاه أراضيها الخصبة الممتدة على جانبي الخط الإسلفتي وهو يرسم نهاية سلسلة الجبال حتى انتهاء الأرض اليابسة على شواطئها الدافئة .. تشعر وكأنك استعدت ألقاً جديداً مشبعاً بروائح الفل والياسمين وابتسامات الفقراء والمساكين المترعة بالأمل القادم من بعيد والوديان الفسيحة وكأنك في حلمٍ تختلط فيهِ الحقيقة بالخيال. أن ترى هذه الأراضي الخصبة والثمار اليانعة والمحاصيل الوفيرة ومواسم السيول المتدفقة، بينما تركض على النواصي وفي الساحات والشوارع الضيقة الأمعاء الفارغة والقلوب المكلومة والعيون الشاخصة بحثاً عن الأمل فيما تنتصب العمارات الفارهة والغرف المكيفة ومعارض الأزياء والبقالات المتخمة بالبضائع المستوردة ، تجد إلى جوار كل تلك الأشياء والأماكن أيادي ممتدة بالسؤال وينبت في ذهنك ألف تساؤل وسؤال!!.
وما إن تنسى لحظات الدهشة والعجب ، تعرج إلى أغوار المدينة القديمة بأحيائها الطينية وأسواقها التقليدية وبائعي التوابل والتتن والبخور والعطور والأسماك المجففة وبقايا صناعات خزفية لا تقوى على مقاومة القادم من الصين وأخواتها.. بينما أنت تشخص إلى عنان السماء تُدهشك المشربيات التركية المعلقة على الطوابق العليا من المباني الطينية التي يعتريها الغبار.. وأنت كذلك تُشاهد الشياذر التي تجوب الأزقة الضيقة تغطي النسوةِ.. وأجساد الرجال بملابسهم البيضاء التي بدت بأشكالها وأنساقها المتعددة والمختلفة كأنك تعيش مهرجاناً للأزياء الشعبية.
هناك كانت أقدامنا الحافية تقتفي أثر المياه على شواطئها الجميلة، مبتلة بطين حواريها، تحرقنا شمسها المضيئة ونحن لا نفتأ عن مواصلة اللعب.. وتداعبنا أحياناً نشوة الفخر ونحن في فصولنا الدراسية نجيب على تساؤل أو نتلقى « فكله » بخيزرانة أستاذ التربية الإسلامية على خطأ في التجويد، فضلاً عن لحظات صمت مطبقة تخيم على الجميع في صالات السينما المفتوحة والنجوم وكأنها قناديل معلقة فوق رؤوسنا ونحن نتابع مشاهد فلم هندي طويل لم ينته بعد .
كانت رائحة الطفولة تفوح من زوايا الأماكن وأنت تزورها ، تستحضر روعتها وأنت تحن إليها وقد تبدّل وجه المدينة واكتسب أخرى مستعارة .. تفتش في أحيائها ولا تجد غير أعمدة من الأسمنت ودخان ينبعث من عوادم الدراجات النارية والمركبات .. وثمة سيجارة بين أصابع مبتلة من عرق يتقاطر عليها من الجباه السمر .
في كل اتجاه تتناثر «فِرز» السيارات والدراجات في انتظار من يمتطيها إلى وجهتهِ .. حيثما وليت وجهك فثمة أناس يجدّون في طرح التساؤل ولا يلقون الإجابة ، وأنا مثلهم حائراً لا أقوى – حتى – على طرح التساؤل .
أحسست بيدٍ تُربَت على كتفي وتوقظني من غفوتي وأصوات أطفالي تتهادى حولي:- لقد وصلنا الحديدة ..! غداً : الفواتير المؤجلة ..! رابط المقال علي الفيس بوك