يتموضع الوطن اليوم على مسافة حرجة ما بين الحوار والدمار، تلك المسافة تمثل أيضاً. وضمناً المسافة ما بين نعم ولا ، والشاهد أن قول (نعم) يتصل موضوعياً بقانون التاريخ والحياة، ويتسق مع التغيير بوصفه المخرج المنطقي من الاحتقان ، فيما تمثل ( لا) حالة الإقامة السرمدية في تلك الأوضاع التي استنفدت عملياً شروط بقائها ، ومن هنا كان الحوار وما زال يمثل استجابة عاقلة لمقتضيات التاريخ والحقيقة، فيما يمثل الدمار إصراراً على التحليق خارج سرب التاريخ والحقيقة . لكن هذا الاستنتاج العام بحاجة إلى استقراء مجير على وقائع الأرض وما يحدث يومياً ، وهنا لابد من القول بأن الحوار يتعطل ويتحول إلى متوالية جديدة لإنتاج ذات الأزمة التي أوصلت البلاد إلى ما هي عليه من حال ، وفتحت باباً مرعباً لسوء المآل ، وذلك بالقدر الذي تواصل فيه المكونات السياسية عجزها الماثل ، وافتقارها المشهود للحيلة والفتيلة، وكأن الجميع مخطوفون من ذواتهم العاقلة.. مسحوبون من أنوفهم صوب منطقة رمادية غامضة .. ومستغرقون في أحلام اليقظة، وهم يبدون كقطعة فللين عالقة في مياه مترجرجة . لم يصل حوار الرشد والحكمة إلى خواتمه المطلوبة ، ولا يبدو في الأفق أننا قادرون على تعمير الفراغ المؤسسي الفادح الذي قد ينشأ غداً أو بعده ، ولم تمكن التجربة المريرة فرقاء الساحة السياسية من التخلي عن ثقافة المكايدات والتمترسات والاستقطابات ، ولا ينظر المصابون بعمى الألوان لفداحات ما يجري في غير بلد انزلق إلى متاهة الحرب الأهلية كترجمة تراجيدية لمنطق الغالب والمغلوب، وثقافة الجاهلية الأولى التي حدت بالحكيم زهير بن أبى سلمى إلى وصف الحرب بقوله : وما الحرب إلا ما علمتم وذقتمُ وما هو عنها بالحديث المرجم كان ذلك يوم أن كانت الحروب بالسيوف والرماح والنبال، وكانت المبارزات المباشرة بين المتقاتلين إشارة رحمة قياساً بالموت المعاصر العابر للأجواء والمسيج ببراميل الشظايا القاتلة ، والسيارات المفخخة ، والطائرات المعربدة في سماء التوزيع المجاني للقتل والدمار والخراب والتشويه. ألا فليعلم السادرون في غيهم ومتاهاتهم بأن البديل عن الحوار والتوافق هو الدمار والخراب ، وأنه لا منجاة لأحد من الموت النفسي إن لم يمت بالسيف ، وأن ثقافة الحرب ستخلق قوانينها الداخلية العجفاء، وأشاوسها من مجرمي الساعات الأولى للانفجار ، وسيخرج الشر المستطير من مرابع سجنه المديد، وستشهد شوارع المدن الكبرى ما شهدته بيروت ومقديشيو ذات يوم غير بعيد. [email protected]