تظل مشكلة بناء الدولة في اليمن القضية الأكثر تعقيداً وهي القضية التي ينبغي أن يكون حولها توافق وسياسي واجتماعي كبير.. بل إجماع وطني، طالما وأن الشعب بكل فئاته ومكوناته الاجتماعية والسياسية والثقافية خرج في ثورة شعبية سلمية واسعة مطالباً بإسقاط النظام الاستبدادي وبناء دولة مدنية ديمقراطية حديثة وتزداد قضية بناء الدولة تعقيداً بتزايد اللاعبين في الميدان لا سميا من مراكز القوى التقليدية التي تتعارض مصالحها مع وجود هذه الدولة ونحن اليمنيين تعودنا أن نذهب إلى الحوار الوطني كلما دعت الضرورة لذلك، ولكن في كل مرة كان يذهب بناء الحوار إلى الحرب و إقصاء الآخر لأن النخب التي ذهب غالبيتها إلى الحوار ذهبت وهي متمسكة بالقوة والمال والسلاح وهي بذلك تتجه بالحوار إلى منزلقات خطيرة أو لإبقاء الأوضاع كما هي عليه. وعلى سبيل المثال: الحوار الذي أدارته سلطة 5 نوفمبر أسفر في مارس 1970م عن مصالحة سياسية بين هذه السلطة، والقوى الملكية التي ظلت تحارب النظام الجمهوري أكثر من ثمانية أعوام وعودة الملكيين إلى السلطة أدى إلى إقصاء القوى الثورية والديمقراطية من أي حل سياسي مما فاقم المشكلة.. وانتج وضعاً متفجراً غير مستقر.. تلاه حوار القوى السياسية الذي أدى إلى توقيع اتفاق «وثيقة العهد والاتفاق» التي وضعت أسساً منطقية لإعادة صياغة الدولة وإصلاح الاختلالات التي رافقت قيام الوحدة ..إلا أن القوى التقليدية التي كونت حلفاً فيما بينها.. انقضت على الوثيقة وقادت إلى حرب شاملة وواسعة استخدمت فيها مختلف أنواع الأسلحة والأساليب المرفوضة سياسياً واجتماعياً ودينياً وأخلاقياً.. انتهت بالقضاء على مقومات الدولة في المحافظات الجنوبية وبنيتها التحتية. والمشكلة التاريخية الحاضرة الآن في اليمن على طاولة الحوار هي مشكلة غياب الدولة بامتياز وهذه العملية أدركها الشعب قبل غيره حينما خرج كالمارد إلى الشارع ثائراً .. مطالباً بإسقاط النظام الذي عافه الشعب وبناء دولة مدنية ديمقراطية حديثة. وأصبحت هذه القضية هي القضية المركزية في الوعي الاجتماعي اليمني وتحتل أولوية في الاستراتيجية الوطنية اليمنية وما يبرز على سطح الحوار يؤكد الحقيقية المُرة التي نخشاها.. وهي أن الحوار يتجه نحو الفشل لأن القوى التقليدية والموالية التي استفادت من الحصانة هي القوة المؤثرة القادرة على فرض شروطها والاستفادة من عامل الوقت وتنظر للقضية الوطنية المركزية المتمثلة بالقضية الجنوبية من واقع تعاملهم معها وأسلوب تعاطيهم معها منذ البداية كقضية من فعل هذه القوى ومن فعل سياسة الفيد والقمع والمصادرة لحقوق وأرضي الجنوب. فغالبية أعضاء مؤتمر الحوار الوطني لا يزالون غير مدركين أهمية القضية الجنوبية متذرعين بقضية الوحدة بينما أصل المشكلة هو غياب الدولة وليست الوحدة. فالوحدة كانت عبارة عن صفقة تجارية لا أكثر. سلّمت المحافظات الجنوبية لمجموعة اعتادت على مصادرة كل ما تريد بطرق غير قانونية وغير أخلاقية وهذا ما أدركه علي سالم البيض حينما قال عقب الحرب مباشرة: نحن اختلفنا مع آل الأحمر لأنهم ليسوا حكاماً ولكنهم عصابة ينقضون ما نتفق عليه قبل أن يجف حبر القلم. فالبلد وصل إلى حد انسداد الأفق السياسي وعلى الرغم من أن ذاك الواقع قائماً بذاته، ومطروحاً على طاولة الحوار إلا أن الغالبية المتحاورة ماتزال تنظر إلى ذلك بنوع من الريبة والشك ولهذا جاءت الوثيقة التي تم التوقيع عليها مؤخراً مخيفة لبعض القوى السياسية، فتأجيل بعض القضايا ليس مبرراً والتفافاً على أهداف ومبادئ الثورة الشعبية السلمية.. منها مثلاً الأخذ بالنظام الرئاسي وهذا النظام سبب كل المصائب التي وقعت ولا تزال في اليمن.. وهناك قوى في مؤتمر الحوار أصبحت تتعمد وضع العربة قبل الحصان، وتقول بعد تسعة أشهر من الحوار: إن الدولة الاتحادية شيء مختلف عن الدولة الفيدرالية، ولم تدرك أن الأقاليم ما هي إلا تقسيم إداري للدولة الاتحادية، وعدد الأقاليم ليست هي المشكلة.. وإنما المشكلة تتمثل بغياب الدولة وهذا الغياب هو الذي ولد المشكلة الجنوبية.. وفي الجنوب وكذا الشمال تولّد وعي بالتجزئة إلى أقاليم ومكونات صغيرة جداً.. ومن هنا يأتي خوف الحزب الاشتراكي اليمني الذي يعتقد أن الدولة الفيدرالية بإقليمين هي الحل الأمثل للحفاظ على وحدة الجنوب والشمال اللذين تتنازعهما القوى والأطماع والمؤامرات، ولابد هنا من التعاطي الموضوعي مع الجنوب ككيان يحمل ثقافة وطنية موحدة.. وكيان موحد ليس ممزقاً. فالقوى التقليدية المتخلفة تحاول منذ عام 1990م الانتقام من تاريخ المحافظات الجنوبية والثورة الأكتوبرية التي قضت على التمزق والتخلف، وتحاول هذه القوى العودة بالجنوب إلى ما كان عليه في الماضي. والحزب الاشتراكي برؤيته للقضية الجنوبية كان أكثر موضوعية وأكثر إلماماً بتاريخ الجنوب وثقافته الوطنية، وهو أيضاً أقرب المكونات السياسية والاجتماعية فهماً للقضية الجنوبية وأية مصالحة لهذه القضية ينبغي أن تأخذ برأي الجنوبيين أنفسهم فليس من المعقول أن يفرض عليهم حلولاً من دون موافقتهم.. وأية قضية يتم فرضها سيكون لها انعكاس سلبي وبنظرة واقعية للسيناريوهات المطروحة على الطاولة بصدد هذه القضية نجدها أقرب إلى المؤامرة.. إلحاقاً بمشاريع التجزئة الاستعمارية القديمة المتمثلة بالاتحاد الفيدرالي والمحميتين الشرقية والغربية. وهناك محاولة لتعميم تلك الدولة وفقاً لذلك المشروع الاستعماري والذي بدأ العمل به من بعد 7/7/1994م ومنذ ذلك التاريخ كان يعمل في المحافظات الجنوبية عليه النظام السابق ورابطة أبناء اليمن. وبعد أن تشكلت لجنة للتقسيم الإداري بعد 2006م تقريباً تسربت معلومات تفيد أن رئيس النظام حينها أعطى تعليمات بأهمية إعادة تقسيم المحافظات الجنوبية وفقاً لما كان قائماً قبل الاستقلال الوطني في 30 نوفمبر 1967م، أي سلطنات، مشيخات، وإمارات، وغيرها وقمت فور سماعي لذلك بمناقشة الأمر مع إحدى القيادات الجنوبية في لجنة التقسيم الإداري الذي أكد لي ذلك، وأضاف قائلاً: نحن نعمل على ذلك منذ سنوات وما هو قائم حالياً في الميدان يعكس ذلك.. فحدود مديرية كذا تقع في نطاق سلطنة كذا، وكذا بالنسبة لبقية المديريات والسلطنات التي كانت قائمة. ووفقاً لذلك تم التعامل مع المحافظات الجنوبية وفي ضوء ذلك تم إحياء الثأرات السياسية التي كانت قائمة قبل الثورة وتم تغذيتها بطريقة مهددة للثقافة الوطنية.