إلى أيٍّ من درجات التساقط تنحدر الشعوب عندما تجعل من عقيدة السلاح و الدم المبدأ الذي يحدد مصيرها و علاقاتها مع الغير؟ تلك حالة من الصراع النفسي إن دخلها شعب انحدر إلى أدنى مستويات التوحش وفقد الانتماء لكيان الإنسانية وعقيدة مثل هذه لا توجد سوى شكل واحد من الاتصال مع الاختلاف في الرأي، هو القتل،س فالقوة هنا ليست لحكم العقل بل هي لجبروت القهر وإلغاء الآخر من معادلة الوجود المشروع حقاً له. وكم هي الأفكار والنظريات التي شرعت لعقيدة الموت، فالقتل هنا ليس رغبة في الانتقام بل جزء من تكوين من آمن بمبدأ مثل هذا. وعندما قال مناحم بيجن وهو أحد قادة العمل الصهيوني مقولته المشهورة:« إن العالم لا يشفق على المذبوحين ولكنه يحترم المحاربين» كان لا يعبّر عن وجهة نظر فرد بقدر ما جسد كلامه نظرية دولة تقود صراعات دامية وهذا يدل على أن التصرفات الفردية تحمل في أحيان عديدة صفات المجتمع التي تنتمي إليه. فالفرد يكتسب من خصائص محيطة ما يوجد في دخائل نفسه من طبائع تصبح بفعل ممارستها من أخلاقيات الحياة فيه فالجريمة تسقط في ثنائية الحق والحرام، الحق في ممارستها ضد الغير والحرام في مفعلها ضد مكان الانتماء و نظرة مثل هذه تنقل الجريمة من المستوى الأدب إلى دائرة إثبات الوجود ضد المغاير وفي المستوى الثاني تجعلها من الأمور التي لا يجب الأخذ بها في كل الأحوال وإلا قادت كيانه إلى الدمار الشامل وهذا الانقسام يعطي لنا صورة عن معاناة مجتمع مثل هذا من أعراض الجرائم فعقيدة القتل لا تنفصل عن رفقة السلاح، وطالما ظل السلاح رفيق المسار، تظل الجريمة حقائق قائمة بل صدام مع النفس قبل أن تكون مواجهة مع الجانب الآخر. وبقدر ما تتسع مساحة الموت والدم في المجتمع، تخدر الجرائم هذا الجسد إلى حد أصبح خبر القتل عند العامة مثل أخبار الرياضة أو نشرة الأحوال الجوية، فهي دون ذاكرة وكأن مشهد الموت المدمر حالة عابرة من صور الحياة. وهنا تصبح ثقافة تدمير الحياة والاعتداء على قدسية النفس من واجبات تلك العقيدة، فهي مثل مصّاص الدماء الذي لا يعيش إلا على مص دم الناس، فلا تكون الحياة له إلا وسط الخراب والموت فالعقيدة عنده تجسد حق القتل و سفك الدم، لأن هذا الفعل هو من يمنحه الوجود. ولكن هل تمتلك عقيدة مثل هذه القدرة على الاستمرار في تسيد منطقها إلى وقت طويل؟ إن ظنت هي ذلك هو من أعراض غفلتها عن حقائق الفكر. فالحريق الذي تشعل ناره يحرق كل شيء حتى هي، لأن المبدأ الذي يقوم على نفي كل مخالف يرجع في نهاية الأمر لنفي من فرضه على الواقع. لأن الدمار لا يقبل تسيد غير قانون العدم، وهو فعل نفي النفي، وقد برهنت الحروب على ذلك كل من سيطر على قوة السلاح والموت ينهار بنفس الوسيلة، لأن موازين القوة ليست لها ثوابت في الصراعات السياسية بل هي تتحرك حسب قواعد اللعبة التي تحمل من بقايا الخداع والمراوغة أكثر مما تكشف من الحقائق. قد تبدأ المغامرة في هذا الجانب بأول طلقة رصاص أو قنبلة وسقوط أول ضحية، غير أن مسار مغامرة مجنونة لا يقف عند حدود القتيل الأول بل تأخذ مداها في توسيع دائرة الضحايا حتى يجد المجتمع نفسه وقد إنقاد إلى محارق من الاحتراق والموت وعندها يوجد هذا الجنون الحربي العجز عند الكل في وقف طوفان الدم، فهو أوسع من أن تدركه أوجاع جسد الأمة، و هذا ما يجعل استمرار التناحر في الشعب الواحد أو عند أهل عقيدة واحدة حقباً من قهر النفس. وما يطرح علينا من تساؤلات حول حالة مثل هذه هو أين هي الدولة من كل هذا؟ وهل في مجتمعات مثل هذه يكون العجز في إيجاد الدولة المدنية من الأمراض التي لا تخرج من جسدها؟. ذلك ما يجعلنا نفسر حقيقة فقدان هذه الشعو ب لحضور الدولة في الواقع لأن كل ما يرمز لكيان الدولة هو ستار يخفي خلفه هيمنة قوى القهر والتخلف على مفاصل الدولة، فهي في الأساس قوة القهر وليست مؤسسات اعمار وهذا ما جعل كل آليات العمل فيها قائمة أساساً على الدور العسكري والأمني. فهي دولة تعيد إنتاج آلية الخراب من قاع المجتمع إلى قمة الدولة. وعملية مثل هذه بقدر ما توجد في الأنفس الخوف من الحكومة لبعض الوقت، تخلّف رغبة في تدميرها حتى لو جاء بعد ذلك دمار المجتمع كله وهذا ما شوهد في عدة دول عربية التي سقطت فيها دولة الحزب الواحدة والزعيم الأوحد ودخلت شعوبها في دوامات من تصفية الحسابات القديمة التي لا تترك لما هو جديد. فالمجتمع والدولة هما من يؤسسان حقوق المواطنة أما الانفراد والسعي إلى إلغاء طرف وفرض هيمنة طرف تصبح المسألة حالة تناحر وصراع من أجل فرض أحادية النظرة طالما ظلت عقيدة السلاح والدم من وسائل حسم الخلافات تكون الشعوب هي أول من يحرق في نيرانها وهي من يذهب إلى مسارات التشرد والضياع وتصبح رهينة مساومات على محاور المصالح والأغراض وأفضل سلعة تقدم لها وهي في هذه المحرقة، السلاح، أمة أرخص ثمناً تدفعه هذه الشعوب هو دمها.