جاءت الذكرى الثالثة لثورة فبراير، لتعيد إلى الأذهان صورة جميلة ولوحة فنية رائعة، كادت أن تتلاشى شيئاً فشيئاً، بفعل الأحداث التي تشهدها البلاد، من اضطرابات سياسية، وانفلات أمني، وتدهور اقتصادي، إضافة إلى الحروب المصطنعة. كل هذه الأحداث والمستجدات على الساحةالوطنية، وغيرها مما خفيّ في دهاليز السياسة وأروقة صنّاع القرار، جعلت الكثير من أبناء الوطن يشعر بنوعٍ من الأسى والحنين في آنٍ واحد، الأسى على ثورة شبابية سلمية، سقط فيها العديد من الشهداء والجرحى، وكذلك ما زال هناك العديد من المعتقلين خلف القضبان، لم يفرج عنهم حتى اللحظة. فالأوضاع لم تستقر، والأمن لم يستتب، والمعيشة لم تتحسن، بل على النقيض من ذلك وبشكل مرعب، فلغة الأرقام للقتل انتشرت وشاعت شيوع الدرجات النارية في بلادنا، وأزيز الرصاص بات يُسمع على مدار الساعة في ليل أو نهار في العديد من المدن وعواصمها، ووصل بنا الحال إلى أننا إذا لم نسمع بمقتول هنا أو اغتيال هناك، تعجّبنا وقلنا: ما السر في ذلك، مثلها مثل انطفاء الكهرباء التي إن تأخرت عن موعد انطفائها، قلنا :غريبة لمَ لمْ تضرب أبراج الكهرباء هذه الأيام. غير أن الذكرى الثالثة لثورة 11فبراير، وخروج تلك الحشود الهائلة والمجاميع الضخمة في أنحاء متفرقة من البلاد، جاءت لتؤكد أن الفعل الثوري مستمر، وأن الثورة لم تذهب أدراج الرياح ودماء الشهداء لم تذهب سُدى. قوافل الشهداء لا تمضي إن الذي يمضي هو الطغيان، فخروج تلك الكتل البشرية كسيلٍ هادر، لا يوقفه سدٌ منيع أو يمنعه جدارٌ كجدار برلين، استطاع أن يلغي حسابات الواهمين والحالمين بالعودة إلى ما قبل فبراير التاريخ، وتسقط رهانات الطابور الخامس في الداخل وأسيادهم في الخارج. كان يظن هؤلاء وظنهم إثم إن الأيام وتقلباتها والليالي وأوجاعها كفيلة بعودة الناس إلى منازلهم، وهم مكسوري الخاطر، على ثورة وليدة لم تتعدَ سنوات الحلم وتبلغ سن الرشد، لكن ظنهم خاب وأملهم طاش، لأن عنفوان الثورة وصوتها الرنان، كان هو منذ اللحظة الأولى للخروج إلى الساحات والميادين، واستوعب الثوار أن هناك من يتربّص بهم ويريد أن يعيد العجلة إلى الوراء، بل عرف الثوار عن كثب بفعل الزخم الثوري الذي واكب مسيرة الثورة خلال سنواتها الأولى، من هو الذي يحمل همّ مولودهم، ومن الذي يتمنى أن يغفل الثوار عن ثورتهم فيصيبها بمقتل، ولا مانع عنده بعدها من أن يخرج مع الناس للصلاة على الميت، والسير في جنازته. إن الثورة التي يحرسها أمثال هؤلاء، ويتعبون على حراستها، حتى تؤتي الثورة أكلها بإذن ربها، يستحيل أن يأتي من يخطفها أو يسلبها من بين أيديهم، فمعترك الأحداث،تجعلهم على أهبة الاستعداد لتلبية نداء الواجب، واجب استمرار الفعل الثوري، والحفاظ على ثمارها وأهمها: إسقاط حكم العائلة ومشروع التوريث بأي اسم كان سواء كان لحزب أو أسرة أو لقبيلة أو طائفة بحجة ادعاء الحقيقة المطلقة أو الحق الإلهي، وثمرة أخرى لا تقل حجماً وطعماً ولوناً ونكهة عن سابقتها، وهي نجاح مؤتمر الحوار الوطني وإقامة دولة اتحادية لا مركزية فيها لطرفٍ وتهميش لآخر. إذن على أولئك المتربّصين بثورتنا والحالمين بعودة الحكم العائلي أو الإمامي، أن يفهموا جيداً ويستوعبوا الدرس واضحاً، إن الثورة مستمرة وأن الثوار ما زالوا يقظين، حتى وإن تركوا الساحات وعادوا إلى البيوت، ولأن عزيمتهم لم تضعف وهمتهم لم تفتر وشوكتهم لم تكسر، فلن تلين لهم قناة، والثورة ليست ساحات أو ميادين، بل هي حياة أو موت، ونحن نرفض أن نموت مرة ثانية في هذه الحياة وعلى تراب الأرض.. أرض الجنتين.