الفترة الانتقالية سواء أكانت مرحلة واحدة غير مجزأة، أو أنها قد دخلت في مرحلة ثانية منها، نخشى أن تكون هذه المرحلة الحساسة من تاريخنا المعاصر قد دخلت طور سوء التوقيت والتقديرات. فالمدة المحددة لها قد مددت، من سنتين إلى وقت غير معلوم؛ وبالمثل فإن الوقت المقدر للإجراءات التي يفترض إنجازها خلال المرحلة الانتقالية تمددت كلها، فمؤتمر الحوار الوطني الذي حدد له ستة أشهر أخذ عشرة، ولم ينته إلا تحت ضغط الدول العشر الراعية للعملية السياسية؛ ويبدو أن الإجراءات المفترض اتخاذها بعد المؤتمر ستأخذ وقتاً أطول من المتوقع، فكل هذه الإجراءات الآن تدخل مرحلة جديدة من الفترة الانتقالية الممددة، إلا أن هذه الفترة غير مزمنة، وهذا قد يضع الانتقال السياسي كله في مأزق خطير، ويشمل ضمن ما نعنيه هنا إجراءات صياغة الدستور الجديد. ما يزال اليمنيون يعيشون أمل التغيير الذي توقعوه نتيجة لتضحياتهم في الثورة الشبابية الشعبية 2011م، ورغم التسويف الحاصل إلا أنهم يتحلون بالأمل، الأمل الذي ينكمش أكثر مع الوقت، إن لم تتخذ إجراءات سريعة يلمسها الناس على الأرض. قد يتعذر البعض في أن الإرث الثقيل من التخلف والهدم الذي كرسه حكم 33 سنة مضت يحتاج لوقت طويل لإصلاح ما أفسد في البلد، وفي القول صدق ومغالطة في آن؛ الصدق من حيث أن العبارة صادقة في أن الوقت الطويل تستوجبه سلسلة الإجراءات الطويلة الواجب اتخاذها، والمغالطة تتبين من أن البعض يستخدم هذه الذريعة ليجعلها شماعة يعلق عليها فشله في إنجاز كل إجراء في الوقت المفترض به، فيما الإجراءات ما تزال طويلة أمامنا، وكل تأخير يحدث يُعَقّد إجراءات التخلص من مضاعفات العهد السابق الذي يبدو أن علينا الاقتناع بسقوطه لنبدأ خطوات جديدة بعيداً عن تأثير التفكير به. في قرار مجلس الأمن الأخير بشأن اليمن 2140م، جاءت العبارة (إذ يسلم – يقصد مجلس الأمن- بأن عملية الانتقال تتطلب طي صفحة رئاسة علي عبد الله صالح)، ولا أظن العبارة تمثل رسالة للرئيس المخلوع فقط، الذي اضطر اليمنيون نتيجة المبادرة الخليجية ليكون جزءاً من السلطة التي تلت عهده، بل إنها رسالة لكافة الشركاء في السلطة الجديدة ليطووا هذا العهد الذي تحوّل إلى ذريعة، وربما يأتي طي هذه الصفحة من خلال التخلي عن وضع تراكمات 33 سنة كمبررات لعرقلة إجراءات التحوّل؛ فطالما أن مجلس الأمن قد قرر طي هذه الصفحة عبر الضغط على الرئيس السابق للخروج من المشهد السياسي، فعلى اليمنيين أن يطووا هذه الصفحة بتجاوز التفكير بالأثر الذي يستطيع علي عبدالله صالح فعله بعد أن سقط. إنما كيف يمكن لليمنيين طي هذه الصفحة، فهذه الصفحة القاتمة ليست علي عبدالله صالح فحسب، فالمؤسسات التي قامت في عهده وبتدبيره ما زالت مؤثرة في القرار السياسي، ومن أهم هذه المؤسسات البرلمان المُسِن الذي انتخب في 2003م، ولا يبدو أن برلماناً عمره 11عاماً لا يزال قيد الصلاحية، خاصة وأنه يترنح بين الاحتكام للدستور السابق المعلّق، وبين المبادرة الخليجية التي تشترط التوافق في اتخاذ قراراته. لقد تجلت قضية التمديد في حياة اليمنيين خلال العقود السابقة، من خلال تمديد موات هذا البرلمان الذي كان يفترض أن يوارى في 2007م، إلا أن الأحزاب في السلطة والمعارضة قررت تمديد فترته، وكذا تمديد الأزمات بينها إلى 2009م، وحين انتهت فترة التمديد الأولى، مددت لفترة ثانية حتى 2011م، إلا أن ثورة اليمنيين لم تسعف الأحزاب لتمديد أزماتها أكثر. لقد عادت سياسة تمديد الأزمات في طريقة عمل السياسيين اليمنيين إلى ما بعد عهد علي عبدالله صالح، فالحكومة التي يفترض إجراء تعديلات عليها، ما زالت تتمدد بأعضائها الحاليين فيما اليمنيون ينتظرون تطبيق مخرجات الحوار بشأنها، وهي خطوة لا تستوجب وقتاً طويلاً لاتخاذها لولا أن الأحزاب اليمنية استمرأت تمديد الأزمات. التمديد يتوغل أكثر ليشمل تأجيل مؤتمرات الأحزاب والنقابات، فكلما شرع حزب أو نقابة بالبدء بإجراء التحضير لمؤتمر عام ينتخب فيه قيادة جديدة، نجده يؤجل الإجراء، وإن كان بعضها قد استكمل المؤتمرات الفرعية في المحافظات، إلا أن المؤتمرات العامة تبدو كلها مؤجلة إلى حين غير معلوم؛ إذاً فالخشية أننا نسير إلى فراغ كبير، ليس فراغاً دستورياً وحسب، فلا دستور يحكم البلاد اليوم بعد المبادرة الخليجية التي مثلت إعلاناً دستورياً عطل الدستور السابق المعمول به، بل أن مساحة هذا الخرق في الرداء الذي يغطي عيوبنا ربما يتسع ليشمل شرعية الأحزاب والنقابات التي سيغدو وجودها الاعتباري كعدمه في حال أمتد الغضب الشعبي الذي يسببه التأخير والتسويف وعدم الإنجاز على الأرض لمساحات أوسع مما هو عليه الغضب اليوم. يتعمد اليمنيون تأجيل اتخاذ قرارات حاسمة فيما يختلفون فيه، بانتظار أن تأتي من الخارج فيقبلون بها وإن شكلت سقفاً أدنى مما كان يمكن أن يخرجوا به في حال التوافق بينهم، وقرار مجلس الأمن الأخير شاهدٌ على ذلك؛ والخطورة في قرار مجلس الأمن، هو ركوننا على عرقلة القرارات بيننا، بانتظار تدخل الآخرين الذين يتوغلون أكثر فأكثر في شئوننا، وهذا التدخل سيكون له مضاعفات خطيرة إن لم نستشعر المسؤولية مبكراً، فأي مُتَدخِّل أجنبي سيضع في اعتباراته تنفيذ أجندة مصالحه في شكل التدخل لمساعدتك. العالم اليوم يشهد تضارباً حاداً في المصالح بين دوله العظمى، والدول العشر الراعية للانتقال السياسي في اليمن وإن كانت متفقة في كل الإجراءات التي تتخذها وتمليها علينا إلا أنها تخوض صراعاً شديداً بينها البين في مناطق أخرى من العالم، وسياستها على الكرة الأرضية تتسم بالتباين الشديد، ابتداءً من الصراع في سوريا إلى أوكرانيا، ومؤخراً الصدامات السياسية غير المعهودة في دول الخليج العربي بينها البين، وسنكون أغبياء إن نحن أغفلنا احتمال انتقال هذا الصراع بين الدول العشر المسيطرة على قرارنا الداخلي إلى بلدنا، وإن كانت متفقة ظاهرياً في كل شأن يعني اليمن في الوقت الراهن؛ لذا فالسبيل الوحيد لتقليل هذه المخاطر هو أن نساعد أنفسنا ونعلي من دقة تقديراتنا، وننجز ما علينا إنجازه في وقته، للتقليل من نسبة تدخل الخارج في شئون الداخل. ولعل لعنة الدعاء السبئي الشهير الذي ذكره القرآن الكريم في سورة سبأ الآية 19، ما زالت تطارد اليمنيين: {فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ}، وإن كان للآية الكريمة تأويلين، في أن الدعاء (باعد بين أسفارنا) يعني باعد بينها في طول المسافة، وبين التأويل الذي يرى أن (باعد بين أسفارنا) يعني أجعل بين السفر والسفر متسعاً طويلاً من الوقت، ففي التأويلين شرحٌ للعقلية التي يفكر ويعمل بها اليمنيون، في أنهم دائماً ما يحتاجون إجراءات طويلة في الانتقال بين المراحل، أو أنهم أيضاً – في التأويل الثاني- يحتاجون وقتاً طويلاً لإنجاز كل سفر. أدعو معي أيها الأخوة، أن يقرب الله بين أسفارنا.. آمين. Twitter @ ezzat mustafa