الحرية والديمقراطية والتعددية الحزبية والصحافية اقترنت بإعادة تحقيق الوحدة المباركة في 22مايو 1990م.. لكن من سوء حظنا في اليمن أن هذه الجرعة الكبيرة في التعاطي السياسي والإعلامي كانت فوق مستوى وعي اليمنيين بها الذين كانوا يعيشون قبلها مرحلة تكميم الأفواه وتحريم الحزبية التي قال عنها القاضي عبدالرحمن الإرياني، رئيس المجلس الجمهوري الأسبق، رحمه الله: إنها تبدأ بالتأثر وتنتهي بالعمالة..ولذلك فإننا لم نحسن التعامل مع ما توافر لنا من أجواء حرية التعبير في خطابنا السياسي والإعلامي عقب قيام الجمهورية اليمنية وحتى اليوم بل لم نستفد منها لخدمة القضايا الوطنية.. وإنما استغلينا هذه الأجواء لشخصنة كل شيء على حساب قضايا الشعب والوطن.. فأوجدنا الأحقاد في النفوس ضد بعضنا البعض وزرعنا في القلوب الكراهية والبغضاء والتخوين وعدم الثقة لتثمر حصاداً مراً جعل الأخ يخشى من أخيه والأب من ابنه وهم يعيشون تحت سقف واحد. ولم يقتصر الأمر عند هذا الحد فحسب وإنما تحول الخلاف الفكري والسياسي والمذهبي إلى صراع مسلح عكسه الإعلام في توجهه ليقتل بعضنا البعض الآخر.. وركب الرؤوس الغرور والكبرياء التي وظفناها للتعامل مع مختلف القضايا بدل حلول التسامح والإخاء وتوعية الجماهير بخطورة هذا التوجه.. ونبشنا أحقاد الماضي ومآسيه لنسقطها على حاضرنا ونجعل منها منطلقاً لتوجيه الاتهامات بالباطل ضد من نختلف معه.. وقد ساهم الإعلام الموجه تحت سقف حرية الرأي المرتفع بلا ضوابط وبلا تطبيق لقانون الصحافة في تحويل أبسط الخلافات بين الفرقاء إلى عداوات دائمة ليواجهوا بعضهم البعض بالسلاح وهو مايتنافى مع أبسط قواعد اللعبة الديمقراطية وممارستها تحت شعار القبول بالآخر والدفاع عن توجهه مهما كان مختلفاً مع نقيضه. ولأنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور- كما قال لله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم - فإن الغل الذي أصبحت تحمله النفوس وتمكن منها قد زاد من اشتعال النار في الصدور فطالت ألسنتها كل ماتصادفه في طريقها لتحرق وتلتهم كل بارقة أمل من التفاؤل وتقضي عليها ليتحول كل شيء إلى قاع صفصف.. وحين نتناول قضايانا المعقدة وماتشهده الساحة الوطنية من مستجدات بهدف معالجتها لا نتعامل مع أسبابها للوقوقوف عليها لتشخيصها كمرض استفحل في مجتمعنا كما يفعل الأطباء مع مرضاهم وإنما نتعامل مع نتائجها ونتخذ قراراتنا على أساس ظاهر الأشياء ثم نعالجها بالمهدئات مع أنها تحتاج إلى مشرط يستأصل المرض نهائياً مطبقين ذلك القول الشائع:جاء يكحلها فأعماها.. وهنا تزداد قضايانا تعقيداً. فعلى سبيل المثال حينما نتعاطى مع وضع الجماعات المسلحة إلى أي طرف سياسي أو قبلي تنتمي ونطلب منها تسليم سلاحها للدولة ننسى نهائياً أو ربما نتجاهل عن عمد البحث عن سبب وصول هذه الأسلحة الخطيرة إلى أيدي هذه الجماعات التي أقلقت بها السكينة والأمن والاستقرار وشلت دور الدولة في بسط نفوذها وكيف تم نهب هذه الأسلحة الثقيلة والمتوسطة من مستودعات المعسكرات و تسليمها أو بيعها لهذه المليشيات وما أكثرها لتقاوم دور الدولة وتصفي حساباتها مع خصومها بما تمتلكه من سلاح.. وهنا يكمن الخلل وتكمن الخطورة.. فهل يعني أن هناك أطرافاً سياسية وقبلية لها مصلحة في إيجاد فوضى أمنية وإدارية من أجل تمرير تحقيق أهدافها الخفية والمعلنة، لأنها تعودت على مدى عقود طويلة أن تنهب ثروة الشعب اليمني وتهيمن على قراره وتتاجر بإرادته الوطنية التي سلبته إياها.. وفي نفس الوقت لتقف حجر عثرة أمام بناء الدولة الوطنية الحديثة التي نتغنى بها إعلامياً ولكننا عاجزون حتى اللحظة أن نضع لها أساساً على أرض الواقع ونتجه إلى العمل لاستعادة الأمن والاستقرار وإنعاش الاقتصاد والتغلب على مظاهر التخلف والبدائية في حياتنا وتخطي الطائفية والقبلية والطبقية التي أصبحت تسود حياة المجتمع اليمني.. وليس عيباً أن ننتقد أنفسنا ونعترف بأخطائناحتى لو أدى ذلك إلى جلد الذات وإلا فإننا سنظل نسير بسفينة الوطن في طريق مجهول لا يوصلها إلى شاطئ الأمان. لقد كنا نأمل في ظل هذا الفضاء المفتوح من حرية التعبير أن يلعب الإعلام اليمني بمختلف اتجاهاته الرسمية والحزبية والأهلية دوراً إيجابياً من حيث البحث عن الحقائق ومتابعة المستجدات الداخلية بنفس وطني وأن تتبنى وسائل الإعلام نقاشاً مفتوحاً بين مختلف الأطراف السياسية للتقريب بين وجهات النظر المختلفة وصولاً إلى خلاصات مقبولة تخدم الشعب والوطن وتساعد القيادة السياسية لاتخاذ قراراتها على ضوئها.. وكذلك مراعاة للمصالح الحيوية لليمن بما ينسجم مع متطلبات المرحلة الحالية رغم حساسيتها وبالذات في تناولها للعلاقات الثنائية مع البلدان الشقيقة والصديقة وخاصة تلك التي استعنا بها للوقوف بجانبنا.. لكن مايحدث هو خلاف ما أشرنا إليه تماماً، فقد تخصص الإعلام في تأجيج الصراع بين أبناء الشعب الواحد وحولهم إلى شيع وأحزاب كل طرف منهم يتعصب لجهة بعينها ويسيء إلى علاقات اليمن مع أشقائها.. ونعتقد أن مثل هذا التوجه غير الوطني في وسائل الاعلام المختلفة عائد إلى وجود الكثير من القوى السياسية التي تفتقد إمكانية التعبير الذاتي عن رأيها بشكل مباشر وواضح وصريح، ولذلك فإنها لا تجد متنفساً إلا عبر هذه الوسائل الاعلامية المعبرة عنها لتعكس وجهة نظرها من خلالها وتحدد مواقفها التي ليس لها صلة مطلقاً بقضايا الشعب والوطن ولا بتربية الجماهير سياسياً ووطنياً وإنسانياً وخاصة مواقفها من تلك القضايا المطروحة للنقاش الواسع بهدف الخروج بحلول ومعالجات تكفل للجميع المشاركة الفعلية في بناء اليمن الجديد بعيداً عن أسلوب الإثارة والمعالجات الخاطئة وغير الواقعية وبما من شأنه استئصال الأسباب الرئيسية التي تؤدي إلى نشوء المشاكل. [email protected]