من أهم الكتابات والشهادات في تاريخ بلد معين هي إنزال الشخصيات المعروفة لمذكراتها أو إملاؤها على من يحررونها نيابة عنها ويحسنون صياغتها دون زيادة أو نقصان والتاريخ الشفوي هو أقوى الشهادات وأصدقها ولكن في السياسة لا يقول المرء كل الحقائق وذلك من باب الكياسة والحذر ولاعتبارات مختلفة يتم القفز على بعض الحوادث والحقائق أو تخطي فترات زمنية لحجب الأخطاء السياسية ولعدم كشف حقائق ضارة بمكانة صاحب المذكرات.. وقد تم الاطلاع على جزء كبير من مذكرات من عملوا على إنزال مذكراتهم منذ سنوات وسنحاول استعراض أهم ما فيها. مذكرات الشيخين الأحمر وسنان: إن ما قد يغفله أو يحجبه مثلا الشيخ عبد الله الأحمر في مذكراته نجده في مذكرات الشيخ سنان الذي لم يترك صغيرة ولا كبيرة إلا أوردها في مذكراته اليومية التي كان يسجلها منذ الستينات في القرن الماضي يوماً بيوم وحتى الأشياء البسيطة اليومية التي قد تبدو تافهة تظهر لنا اليوم ذات قيمة لكونها وثّقت ولأنها تفصل للأجيال دقائق الأمور فيقرأون التاريخ بدقة. فمثلاً لا نجد الشيخ عبدالله يكشف عن الخلاف بينه وبين الرئيس الارياني ولكن الشيخ سنان يورده بالتفصيل في صفحة 466 في مذكراته في الجزء الثاني من طبعة المذكرات الأولى، ولا نجد عند الشيخين الأحمر وسنان توضيحاً أو وضوحاً للخلاف مع الرئيس الشهيد الحمدي وسبب الخلاف أو الصراع، اللهم عبارة قالها من قناة الجزيرة السيد محمد عبدالملك المتوكل في برنامج تحت المجهر قبل سنوات وقد نقلها المتوكل عن لسان الشيخ سنان وهي: (الحمدي أدبناه لمن بعده)، والشيخ عبدالله يعتبر الصراع مع قوة القبائل الملكية خلق توازناً بين القبيلة والدولة المسنودة بالدعم المصري حيث يقول: (إن تمرد بعض القبائل ضد الثورة ودعم السعوديين ومن تبقى من أسرة حميد الدين الذين كانوا يتنقلون في المناطق قد نفع في هذا الجانب وأوجد أيضاً توازناً وحطم أي طموح ضد القبيلة, صفحة 322الطبعة الثانية 2008م)، وهذه نظرة خاطئة من قبل صاحب المذكرات لأننا كنا نتمنى أن يكون هذا التوازن ضد الدولة في عهد الإمام الذي استبد بالقبيلة وأفقر مشايخها وليس ضد دولة ولدت عن طريق ثورة وجمهورية جاءت ضد الظلم والاستبداد لإنقاذ القبيلة ولإسعاد الجميع، والدولة لا تكون دولة إذا نافستها قوة أخرى في الداخل ولا يمكن بناء الدولة بهذه النظرة, ولا ينبغي أن تكون القبيلة نداً للدولة حتى لا يصير صراعاً بين القبيلة من جهة وبين الدولة وباقي الشعب من جهة أخرى. وإذا كنا لا نجد قبيلة نداً للإمام في عهد الإمامة ولم نجدها تخلق توازناً معه لأنها كانت تُضرب (مثال ذلك ضربها في عام 1959م) فكيف نسمح للقبيلة أن تكون نداً للثورة والجمهورية وتخلق صراعاً معها وقد سعى الجميع من أجلها. ونذكر أنه بخطاب ساخن للإمام أحمد من الحديدة في 1959م وجهه للقبائل يأمرها بمغادرة صنعاء فوراً, غادرت القبائل صنعاء مسرعة برغم أنها جاءت لنصرة الأمير البدر على الجيش الذي تمرد وأحرق بيوت المسئولين مطالباً ببعض الحقوق، وقد شكا الشيخ عبدالله في مذكراته من ممارسات الإمام يحيى الذي كان يفتح لبيت الأحمر بين الحين والحين شريعة ويختلق لهم قضايا بقصد إرهاق الأسرة وإفقارها حتى وصل أو كاد أن يصل إلى مسعاه، وكان الأئمة في كل مرة يتغلبون على القبائل من قضية القصور في الحسابات المالية عند السيد يحيى شيبان الذي فر إلى حاشد في العشرينات بسبب عجز مالي في حسابات الأموال المؤتمن عليها. كما روى البردوني في كتابه (اليمن الجمهوري) صفحة 77 الطبعة السادسة 2008م) ثم حاربها يحيى, إلى انتفاضة المقاطرة في ريف تعز إلى قصة الأكياس الفارغة في حاشد في 1959وحتى إعدام الشهيدين حسين الأحمر وحميد الأحمر في سجن حجة بعد أن دعاهما قائلاً:«تعالوا بوجهي». وكان الأئمة في كل مرة يتهمون الطرف الثائر بأنه لا يؤدي فرائض الله أو أنه كافر مع النصارى خرج عن الملة وهي نفس التهمة التي كانت توجهها إذاعة الملكيين للإخوة المصريين بأنهم فراعنة وملاحدة وكنا نسمع هذه التهمة باستمرار, بينما الإمام أحمد وقع ميثاقاً مع مصر في عام 1956 وطلب الوحدة الفورية معها في عام 1958. وحضرت عدة دفعات مصرية في الخمسينات لتدريب الجيش اليمني على السلاح، فهل وقع الإمام ميثاقاً مع الملاحدة وطلب الوحدة معهم وهم ملاحدة على حد زعم الملكيين المرتزقة؟ وهل ائتمنهم على تدريب جيشه وهم كذلك؟ ومصر هي بلد الأزهر الذي أنقذ العالم العربي والإسلامي من هجمة المغول والتتار القادمين من الشرق وكسرهم, وصد الصليبيين القادمين من الغرب وانتصر عليهم. من سلبيات القبيلة العصية أو المتنمرة من خلال بعض المذكرات: وفي اليمن نجد أن القبيلة هي التي انقضت على ثورة 1948م الدستورية وجاء جميع مشايخها يهنئون الإمام بالنصر واستعدوا وتحفزوا لإنقاذ الإمام من انقلاب الثلايا في مارس 1955 ووصلوا إلى صنعاء في 1959م لمناصرة الأمير البدر ضد انتفاضة الجيش بدلاً من الوقوف مع الجيش ضد الأمير وأبيه الإمام الذي كان مسافراً للعلاج في روما 1959م ولما عاد أخرجهم مسرعين من صنعاء بمجرد خطاب من الحديدة. ثم شنت القبيلة حرباً ضروساً على النظام الجمهوري لسنوات عديدة وهو النظام الذي أتى لتخليص القبيلة نفسها من الظلم والظلام، وكان المرتزق الأجنبي والمرتزق المحلي القبلي يقفان جنباً لجنب وكتفاً لكتف، لقصف العاصمة صنعاء بمنشآتها وأحيائها السكنية ودون اعتبار للمدنيين من نساء وأطفال وشيوخ. وهكذا ظلت مثل تلك القبائل العصية على الدوام ومنذ السبعينات ورغم اشتراكها في السلطة ظلت في الاتجاه المعاكس وضد أي رئيس أو أي طرح مهما كان شرعياً أو وطنياً أو محقاً أو عصرياً حديثاً، وهذه المخالفة الدائمة والمعارضة التي من دون أي مبرر حقيقي وصادق، ليست سوى لسبب وحيد واضح هو الطمع المادي والجشع والرغبة المستمرة في الهيمنة عن قرب أو عن بعد, وفي الكسب والاشتغال بتجارة الحرب والارتزاق نظراً للفراغ في الوعي والعمل وعدم مراجعة الإيمان والضمير، وليس في الأمر مبادئ ثابتة أو قيم ومثل عليا بل الدافع هو الوقوف على النقيض المكلل بالغطرسة كمرض مزمن إلى جانب الجنيهات الذهبية. يقول الأستاذ أحمد محمد نعمان الذي لقب بأبي الأحرار ثم نقل هذا اللقب إلى زميل كفاحه الزبيري في مؤتمر عمران في 9 /9/ 1963 (انظر كتاب الشهاري مجرى الصراع). يقول النعمان في مذكراته: “فوجئت ببعض القبائل جاؤوا إليّ يسلمون عليّ ويحيوني, فظننت أنهم يشكروني على حل المشاكل, وإذا بهم يقولون: “أنت رجل ابن ناس وتحب الخير للناس, نترجاك أن تبحث لنا عن فتنة نعيش منها”. مذكرات الأستاذ النعمان: وصف الأستاذ أحمد محمد نعمان رحمه الله بدقة حياة القرية والطفولة في عهد التخلف وأساليب عسكر الإمام ونفسية بعض القبائل المتخلفة التي تبحث عن الفتنة بقصد المال وبعض جوانب الصراع الخفي في الجمهورية ولكن قد تؤخذ على الأستاذ ملاحظتان الأولى هو أنه نفى في الطبعة الأولى من الكتاب صفحة 224 وجود أي يهودي في اليمن وقال للصحفي: (كلا, ولا يجد يهودي إطلاقاً) ونستغرب ذلك رغم انه أعرف الناس باليمن واليهود حينها في مطلع السبعينات - حين سجل المذكرات في بيروت - كانوا يعيشون في ريدة وعمران.. والملاحظة الثانية هي رغم أن الأستاذ عرفنا بالمزيد من نفسية القبيلة المرتزقة وبحجمها الحقيقي إلا أنه عظم وهول من أمرها في أحداث أغسطس 1968 المؤسفة, التي انتهت بصلح تابعناه من الإذاعة وليس بهزيمة ساحقة لأحد الطرفين حيث تم تسفير القادة المتصارعين إلى الجزائر وغيرها، ولكن لأن الصلح كان غادراً عاد الطرف الغادر الذي هرب من معارك حصار صنعاء, عاد ليعزز من الفساد مع مشايخ القبيلة حتى استقال محسن العيني ثم النعمان نفسه بسبب نهب المشايخ لميزانية الحكومة على حساب التعليم والصحة، ثم تلاهما بعد عامين الرئيس الأرياني في 74م بالاستقالة بعد اعتكاف مؤقت في دمشق. ونعرف أن الفرق المدربة المسلحة بالوطنية وبرفض الذهب والرشوة, صاحبة شعار (الجمهورية أو الموت) كانت دائماً على قلة عددها تهزم المرتزقة في الجبال وتطاردهم وآخر ذلك, فك حصار صنعاء, وتلك الفرق وأولئك القادة مثلهم مثل غيرهم كما هي سنة الحياة لم يكونوا يخسرون إلا بالخديعة أو بالخيانة أو الغدر والمكر ونكث العهد من قبل الغير من أعداء الثورة والوطن والتاريخ, أعداء أنفسهم. ما هي أهم المذكرات الأجدر بالقراءة؟ بعض المذكرات مهمة ولكن الأكثر أهمية والأجدر بالقراءة هي في نظرنا للمناضلين عبد الغني مطهر في كتابه (يوم ولد اليمن مجده) في طبعته الأولى, والمناضل د. محمد علي الشهاري في كتابه (مجرى الصراع) ومحمد علي الأسودي (حركة الأحرار والبحث عن الحقيقة) لأنها تميزت بالمصداقية ووضوح الرؤية وروح المعاناة والمسئولية والاحتراق لأجل الوطن والتجرد من أي نزعة والكم الهائل من المعلومات الهامة والحساسة دون لف ولا دوران, مع عدم القفز على الأحداث وهي مذكرات وطنية أكثر من كونها شخصية تحس فيها بنكران الذات عند الكاتب وأن الهم لديه هو الوطن وليس الجاه أو تكريس النفوذ فعبد الغني مطهر يعد صاحب مشروع ثورة 26سبتمبر62 بحق فقد تفرغ له منذ العام 1958م وحتى قيامها. يروي المراحل والأحداث والتاريخ وما جرى في تسلسل منطقي وإيقاع درامي رصين وحزين نتيجة لمعاناته ولوضع اليمن, دون حلقات مفقودة ودون تجاوزات أو مغالطات أو غموض وتقلب في المواقف، وقد بدأ مشواره النضالي والوطني الطويل حين كان تاجراً في الحبشة وذلك في الإسهام في عام 1945 بإرسال الدعم المالي لحركة الأحرار في عدن التي بدأت في العام 1944م. وقرر العودة في أواخر العام 1957م إلى تعز والاستقرار فيها قاصداً الإطاحة بالنظام الإمامي ببرنامج ورؤية يصعب توفرهما لغيره وبمشروع نفذه خطوة خطوة حتى حالفه النجاح، فهو يذكر اتصالاته وتواصله مع أول شخص ومن أول يوم حتى الساعات الأولى للثورة باذلاً كل ما استطاعه من مال ولم يترك كتفاً إلا وسانده بالدعم المالي والمعنوي في طريق الثورة, راصداً كل الأسماء التي تواصل معها بحسب الترتيب الزمني لنشاطه وفرز الأسماء بحسب الفئات من ضباط وتجار ومثقفين وقضاة ومشايخ كما أفرز قسماً معرفاً فيه بثلاثين شخصية، فكأنك أمام رواية تاريخية ليس فيها انقطاع. وقد أنصف المناضلين بالاسم كما كان صريحاً وواضحاً في ذكر الخائبين أعداء الثورة وأعداء أنفسهم، وقد تقلد منصب عضو مجلس قيادة الثورة في بدايتها وحشد المقاتلين لفك حصار صنعاء ولكن انقلاب 5نوفمبر 67م المشئوم برموزه جازوا إحسانه إليهم بالإساءة وأذاقوه ويلات السجن والاعتقال حتى نفي إلى مصر في أغسطس 69م وقضى فيها سنوات طويلة كان من ثمارها كتابة مذكراته التي تعتبر أهم وثيقة في تاريخ الثورة واليمن المعاصر جدير وحري بكل الشباب والمثقفين أن يقرأوها, لأنها في نظرنا وبعد قراءات وبحث ومقارنات وجدناها صادقة وخالية من الغرور أو الاستغفال للناس. من مذكرات الضباط الأحرار حول مطهر: ورد في كتاب (الثورة اليمنية) الذي أعدته لجنة من تنظيم الضباط الأحرار وفي الصفحة 78 من طبعته الأولى: (وللحقيقة والتاريخ فإن عبد الغني مطهر كان أكثرهم حماساً واندفاعاً وجرأة في العمل الوطني بالرغم من أنه كان أكثر تجار تعز ثراء واستقراراً وأكثرهم تقرباً من القصر, وبالرغم من ذلك فإن عبد الغني مطهر كان أكثر عناصر التجمع الوطني حماساً في كسب ثقة الضباط والتعامل معهم...). وأما نظرة بعضهم الخاطئة التي رد عليها في كتابه فيما بعد فهي: (إن قلة من الضباط الأحرار كانت ترى أن أي حركة يكون للتجار فيها أدوار رئيسية وهامة هي بمثابة القضاء على الحكم الفردي البغيض, وتسليم الحركة الوطنية إلى طبقة برجوازية لن يكون همها إلا الحفاظ على ثرواتها والاستزادة منها.)ص 79 من كتاب الثورة اليمنية المذكور. أما رد عبدالغني مطهر القاطع عليهم في كتابه (يوم ولد اليمن مجده) فكان كالتالي: (كيف بالله يستقيم أن يوصف الذين ضحوا بثرواتهم طائعين مختارين في سبيل الثورة بأنهم لن يكون همهم سوى الحفاظ على ثرواتهم؟ أي منطق في هذا القول؟ فلو أنه كان هم هؤلاء هو الاحتفاظ بثرواتهم لظلوا محتفظين بها ولما بذلوها رخيصة في سبيل تحرير الوطن. ويضيف مطهر: (بأن الحق الذي يجب أن يقال هو أن هذا الادعاء كان يمكن أن يصح لو أنه وجّه إلى أولئك الذين كانوا يفتقرون إلى الثروة قبل الثورة ثم أصبحوا بعدها وبسببها من أثرى أثرياء اليمن..) انتهى رد مطهر وهنا تكمن الحقيقة.