قبل أن يتصالح الإنسان مع غيره هو بحاجة لأن يتصالح مع نفسه، فالتصالح مع النفس سوف يفتح أبواب التصالح مع الغير.. ولا بد له أن يدرك ماذا يريد أولاً.. الكثير من الناس ومن الأحزاب والجماعات بحاجة إلى التصالح مع الذات أولاً، وبحاجة إلى إعادة تقييم مواقفها وسياساتها وترتيبها على أسس واقعية لتأتي المصالحة مع الآخرين بفائدة على الجميع. في الواقع نحن في حاجة إلى مصالحة كبرى تتجاوز حدود المصالح الضيقة. مصالحة تحافظ على البلد الواحد من التشظي نتيجة الصراعات والخلافات غير المدروسة، فالكثير من صراعاتنا بشتى مستوياتها هي صراعات طائشة ومستعجلة، ولذلك لا توصلنا إلاِّ إلى طرق مسدودة، وكثيراً ما نكتشف بعد فوات الأوان أنها كانت صراعات غير واقعية. تتآكل المجتمعات والأوطان بفعل هذه الصراعات الطائشة، وتدفع من مقدراتها ثمناً باهظاً، وفي النهاية نعود لنفتّش عن أوراق كانت بالأمس مهملة على أهميتها وضرورتها التي أغلقت دونها الأسماع والأبصار. لا بأس أن نتعلّم من الخسائر ونعيد ترتيب أوراقنا.. لا بأس من التفكير في المصالحة ولكن لتكن مصالحة ذات بُعد أكبر من متطلبات اللحظة والمصلحة الخاصة.. دعوها مصالحة من أجل الجميع.. من أجل الحاضر والمستقبل. لتكن مصالحة نابعة عن قناعة وإيمان بأنها الخيار الأفضل والأمثل والوحيد لحماية أنفسنا ومجتمعاتنا وأوطاننا من هذا التآكل الذي يستشري في جسد الأمة. ثمة فرصة سانحة لم تزل لإعادة ترتيب العدوان والصداقات وترتيب ضرورات التقارب أو التباعد، وثمة فرصة لم تزل قائمة لإدراك الواقع وإلى أين تسير بنا الأحداث سواء على المستوى المحلي أو على المستويين الإقليمي والدولي. ستجرفنا الأحداث بتطوراتها من أبسط التكوينات فنصل إلى مرحلة لا نقدر معها أن نفعل شيئاً لتفادي الكارثة.. وسنجد أنفسنا مع معمعة صراع لا نقدر على مجاراته.. سنجد أنفسنا نذهب نحو الفناء الذي طالما كرهناه وخشيناه.. التصالح مع الذات عند الأفراد والجماعات والأحزاب هو بوابة العبور نحو المصالحة الاجتماعية والسياسية التي تعود بالفائدة على الجميع دون أن تكون ضد أحد. وصلنا إلى حالة غير مسبوقة ونحن نعد الضحايا ضحايا الصراع ولم نعد نقدر أن نحصي عددهم ولا نحصي الخسائر الناجمة عن هكذا صراع.. وصلنا إلى مرحلة بعد كل صراع نكتشف إننا كنا على خطأ، وأن الشيطان أعواناً لنقتتل ونتصارع. لا يوجد عاقل يعارض مبدأ التصالح بأي مستوى كان فتصالحوا قبل فوات الأوان.. تصالحوا قبل ألاّ تصالحوا، وتداركوا، ما يمكن تداركه من مقدرات البلد أرضاً وإنساناً، واجعلوها مصالحة مع النفوس أولاً.. مصالحة تُفضى إلى قناعات حقيقية بضرورة المصالحة العامة. القادم ليس سهلاً ولا هيناً وليس بأفضل ما لم تكن هناك حالة اصطفاف وطني تتجاوز حدود التكتيك المرحلي ليصل إلى مرحلة الوئام وتجاوز الخلافات بين سائر المكونات على اعتبار الشراكة في الوطن والحق في المساهمة في بنائه، وعلى اعتبار أن الواقع يفرض هذا التصالح والتعايش حيث لا خيار سواه.