وقائع الصراعات المتعدّدة وخيارات العنف لا تفرض نفسها إلا حين تغيب المشاريع الثقافية الصانع الأول للمشاريع الوطنية, أو حين تغيب فاعلية الرؤى التي يحيا بها مجتمع المثقفين, أو حين يتحوّل المثقف إلى نص بين يدي السياسي يعيد بناءه كيف يشاء, ويفسر دلالاته بما يشاء, ويلقيه على الجمهور متى ما يشاء ليفحم به الخصوم ويكسب به التأييد. فمثقف اليوم خطاب بالغ التأثير بما لديه من إمكانات بلاغية ساحرة تنجح في تخدير الجمهور وحمله على الإيهام والتخييل بعيدًا عما يحصل في الواقع, ولذلك اصطدم الكثير منا بواقع بعيد عما يدور في مخيلاتهم. فهل أجانب الصواب إذا قلت: إن المثقف اليمني لا يحمل رؤية، هل نحن بالفعل أمام كائن عاطفي عصبوي يكتب أكثر مما يقرأ, وإذا قرأ لا يقرأ إلا في الاتجاه الواحد, مكتفيًا بالقدر الذي يمكّنه من نسف الفكر الآخر, ولهذا فلا ينبغي أن ننتظر منه أي دور فاعل في إخراج الوطن مما هو فيه، هل هذا المثقف يتحمل جزءًا من وزر ما يحصل اليوم في الوطن من أزمات عاصفة..؟!. ولكن بالأحرى أين هو هذا المثقف، وكيف انخفض صوته وغاض ماء عقله، وكيف أصبح الفكر الثقافي وموروثنا القديم والجديد من السجالات الثقافية مادة قابلة للذوبان, في وقت أصبح فيه الوطن مادةً قابلة للاشتعال في أية لحظة، وإذا كان لهذا المثقف بقية من حياة؛ فهل بإمكانه الخروج إلى المجتمع بتصوّرات وحلول تنتشلنا من هذا المزلق الذي انزلقنا إليه..؟!. أو بمعنى آخر: هل بإمكان المثقف اليوم أن يعيد ترتيب العلاقة بين ما هو ثقافي وما هو سياسي ليصبح مثقفًا فاعلاً وقوة مجتمعية قادرة على فرض خيارات آمنة تسير بالوطن إلى حيث ينبغي أن يصل بعد أن فشل السياسيون في تحقيق هذه الغاية وبعد أن أصبح الفشل سلوكًا ليس بمعزل أية قوة من القوى السياسية ادعاء تطهرها منه..؟! هذه أسئلة تطرح نفسها في واقع اليوم, لاسيما في ظل المآلات التي وصلنا إليها, فتطوّر المجتمعات ونهوضها ومعالجة مشكلاتها تكون دائمًا مرتبطة بشريحة المستنيرين ومؤسّساتهم وإبداعاتهم وخياراتهم الحالمة التي تضغط في اتجاه تصحيح المسار الوطني وتكوين الرأي العام المؤيّد للسلام والاستقرار والتعايش بين مختلف القوى, وتشاركها في تحقيق الأهداف الوطنية. الكثيرون من المثقفين يحضرون اليوم أصواتًا لا رؤى, ولم يعد بالإمكان غض الطرف عن دور المثقف في ما يحصل من تطوّرات, بغض النظر عن كونها سلبية أو إيجابية, وبهذا فلا يمكن أن نظل مُصرِّين على مقاربة مشكلاتنا الكبرى في حدود السياسة ومجتمع السياسة فقط. فالمثقف في السنوات الأخيرة ساعدته الطفرة الإعلامية لاسيما الفضائيات والإعلام الاجتماعي على اقتحام مجال السياسة, ومن ثم المشاركة بعمق في كثير من العمليات السياسية, حتى تلبّست كل الأفكار الثقافية في ذهنه لبوسًا سياسيًا, وحتى غدت الثقافة ليست إلا طريقًا إلى دخول عالم السياسة. ولهذا غاب المثقف وغاب النشاط الثقافي بالشكل الذي جعلنا ندرك أن ما هو ثقافي عند العرب لا يمكن أن يجري إلا في ظل هيمنة السياسي, وإذا عطس السياسي أصبح من المحتم أن يُصاب المثقف بالزكام, وكأن الإنسان لا يتثقف إلا من أجل تأزيم الصراع مع الآخر في الفكر أو الأيديولوجيا, وكأن الثقافة ليست صناعة حضارية لها مسارها الخاص الذي تنهض به الشعوب وإن فشلت سياسيًا. لقد اختار مثقف اليوم أن ينسحب من عالم الثقافة الرحب إلى عالم السياسة الضيق الأفق الذي يجعله مهووسًا ببغض الآخر والتحامل عليه دون رؤى موضوعية تدرس الواقع بحياد ثم تضع الحلول المغايرة التي تملأ الفراغ وتحل العقد التي يتسبّب بها جهل الساسة. فما الذي يمكن أن يصنعه مجتمع المثقفين في ظل هذا الانغلاق السياسي وسيادة الفوضى، ما الذي يمكن أن يقدموه ليضغطوا به من أجل تعافي الوطن من أمراضه المزمنة التي تزداد انتشارًا في جسمه كل يوم..؟!. هل بإمكان المثقفين تشكيل جبهة مدنية تستميت في الانتصار لأحلام اليمنيين ووأد الصراعات, واختصار الطريق إلى المستقبل المنشود, أم أن أهل الثقافة قد ماتوا..؟!. [email protected]