لا توصيف محدد للمثقف في مجتمعنا، ضبابية وانزواء وعوالم اختلقها لنفسه، يغرد خارج السرب، وبعيداً عن هموم الواقع، مؤخراً ظهر في آخر الركب، وفي ذيل الطوابير الطويلة والمملة، تجده تابعاً لا متبوعاً، متأثراً لا مؤثراً.. ليس له تلك الكاريزما, التي يراهن عليها في حل إشكالية الأسئلة المعقدة، وما يعتري المجتمع من مشكلات، تتلبس حاضره وتريد القضاء على أي أمل في مستقبله.. إذن أين هو المثقف اليوم..؟ أين موقعه من الإعراب..؟ هل يملك الجرأة للتضحية من أجل أفكاره, ما أهدافه وكيف ينظر للمستقبل..؟ هل تسوده التشاؤمية..؟ أم أن التفاؤل هو المسيطر عليه..؟. أسئلة كثيرة متعلقة بالمثقف، وسلطاته التي تبدو اليوم مغيبة في واقع بائس ومنهك، وأنهك ما فيه المثقف، الذي تتعدد اليوم مشاربه وتوجهاته، فاختلطت علينا ماهيته وجوهره.. فنتساءل من جديد، من هو المثقف الذي نريد..؟ هل المثقف المتعالي والمتسامي على الخطابات السياسية والأيديولوجية المباشرة، أم ذلك المتماهي معها والمجسد لفوضاها واختلالاتها.. ذلك البعيد عن الحاكم والسلطة، أم ذلك المرتمي في أحضانها والمبرر لأخطائها ونزواتها.. مثقف اليوم هل يبدو متحرراً من سلطة السياسي، الذى لا يريد أن يتركه يتحرك، لذا يقيده بأيدولوجيته التي يجترحها على المجتمع، وكيف لهما أن يكونا معاً مع مصلحة الوطن..؟ هذا ما نبتغي السير فيه والبحث عن مكنوناته، في فكر الدكتور قاسم المحبشي أستاذ فلسفة التاريخ والحضارة في جامعة عدن.. عولمة عن مفهومي الثقافة والمثقف يرى الدكتور المحبشي بأنه يجب علينا إعادة التفكير فيهما خصوصاً في هذه اللحظة الراهنة من تاريخ الحضارة الإنسانية, فنحن في عصر العولمة حيث ينكمش الزمان والمكان إلى حد, بتنا فيه نعيش فيما يشبه قرية “سبيرنتية”، كل شيء بات متاحاً للجميع: المعرفة والعلم والآداب والثقافة بكل صورها وأنماطها، لم يعد للمثقف تلك السلطة التقليدية والدور الاجتماعي, الذي كان في زمن مضى، والمثقف بمعناه الجرامشي، ( المثقف العضوي ) بل وحتى بصيغة جان بول سارتر الملتزم الانشغال في الشأن العام، المثقف العارف الكلي صوت من لا صوت لهم، الملتزم نقد كل قوى الهيمنة وشروطها والدفاع عن القوى الضعيفة المهيمن عليها، ولعلك تتذكر كتابات إدوارد سعيد في المثقف والسلطة وتمثيلات المثقف، إذ عرف المثقف بانه الشخص الذي لا يكف عن مناوشة كل سلطة مهيمنة, بما في ذلك سلطة الرأي العام وسلطة الثقافة ذاتها، ومن المؤسف أن العولمة بالمعنى الواسع للكلمة قد كان لها أثر خطير علينا، إذ جعلتنا نتوهم أننا نتشارك مع العالم المتحضر، عالمنا الراهن بكل خيراته المادية والرمزية وبسبب هذا الوهم الخطير، أهملنا التفكير بحقيقة وضعنا وطبيعة مشكلاته الحيوية، وأهمها على الإطلاق، مشكلة الانتقال من التقليد إلى الحداثة، ففيما العالم اخذ يتحدث عن مرحلة ما بعد الحداثة منذ عقود كل شيء ما زلنا في تراجع مهول عن النزر اليسير من قيم وصور الحداثة والتحديث التي تحققت للجيل الذي سبقنا، وهذا ما ادركه صموائيل هنتجتون في دراسة له عن التغيير إلى الخلف في ثقافة الشرق الأوسط!. تخصص هناك اتجاه جديد وصفه الدكتور المحبشي بأنه حضارة الموجة الثالثة، إذ يجرى الآن الحديث عن المثقف المتخصص في نسق ومجال محدد، فهناك تغيير جذري للحياة وأساليبها في المجتمعات المتعافية كما قال ويتابع: الحالة الراهنة بالنسبة للمثقف العربي هي حالة وضع الصدمة، إذ مازال الارتباك سيد الموقف، ثمة تداخل وتشابك مضطرب بين قوى الهيمنة العالمية والمحلية والإقليمية، وحينما يرهن مثقف مفترض يساري أمر تأسيس وبناء الدولة في بلده بقوى الهيمنة العالمية فاعلم أزمة المثقف ودوره بلغة الصميم.. تعددية وعن المثقف الذي نريد يقول المحبشي: لا بد لنا أن نتعرف على الثقافة وماهيتها أولاً إذ تؤكد نظرية الثقافة على أهمية التعددية الثقافية كمعطى جوهري وحيوي للحياة الإنسانية، فالفرد في المجتمع يتفق مع بعض الناس في كل النواحي كما يتفق مع بعض الناس في نواح أخرى، ولا يتفق مع أي من الناس في نواح ثالثة. وتهتم علوم البيولوجيا والفسيولوجيا بدراسة الجانب الأول، كما تهتم علوم النفس بدراسة الجانب الثالث، أما الجانب الثاني فيشكل مجال اهتمام ودراسة علوم الاجتماع والأنثروبولوجيا والجغرافيا الثقافية. .فالأسلوب الذي يسير عليه الناس في حياتهم وسلوكهم وقيمهم وطرق تعبيرهم وفنونهم وآدابهم، إنما يعتمد على طبيعة الثقافة السائدة في المجتمع مع بعض الآثار التي تتركها العوامل الجغرافية والبيولوجية، وهنا تبرز أهمية المنظور الثقافي كأفق منهجي لا غنى عنه في دراسة الثقافات المحلية واكتشاف الاختلافات والمميزات والتشابهات بينها. نظرية ويواصل: وإذا ما انطلقنا من تعريف الأمريكي (روبرت بيرستد) للثقافة بأنها « ذلك المركب الذي يتألف من كل ما نفكر فيه أو نقوم بعمله أو نمتلكه كأعضاء في المجتمع» ويميز (ميشيل توميسون) ومؤلفو كتاب (نظرية الثقافة) ترجمة علي الصاوي، عن سلسلة عالم المعرفة الكويتية 23 تموز 1997م بين ثلاثة انساق متواشجة في بنية الظاهرة الثقافية هي: - التحيزات الثقافية: التي تشتمل على القيم والمعتقدات المشتركة بين الناس - العلاقات الاجتماعية: التي تشمل العلاقات الشخصية التي تربط الناس بعضهم ببعض - أنماط وأساليب الحياة وهو الناتج الكلي المركب من التحيزات الثقافية والعلاقات الاجتماعية. وهناك خمسة أنماط أساسية للحياة هي: نمط الحياة التدريجية. ونمط الحياة المساوآتية ونمط الحياة القدرية نمط الحياة الفردية ونمط الحياة الانعزالية. وتؤكد نظرية الثقافة على أهمية التعددية الثقافية؛ لأن الأمة التي تتعدد فيها وتتوازن أنماط الحياة تصبح أقل تعرضاً للمفاجآت وأكثر قدرة على الاستجابة للمواقف الجديدة. تنوع وعن حاجتنا لتعدد الأنماط وتنوعها يرى الدكتور المحبشي بأن النظم السياسية التي تشجع تنوع أنماط الحياة المتعددة أقرب للنجاح من تلك التي تقمع التنوع الضروري. وتؤكد النظرية أن التعددية جوهرية، لأن اختلاف الناس في هذا العالم هو الذي يمكَّن أنصار كل نمط حياة من أن يعيشوا بطريقتهم، بحيث تصبح معيشة الناس في نمط واحد نوعاً من (اليوتوبيا) المهلكة، لأن أنصار كل نمط حياة يحتاجون للأنماط المنافسة، سواء للتحالف معها، أو الشعور بالذات في مقابلها أو حتى لاستغلالها لمصلحتهم. انحسار وعن المثقف والسياسي يؤكد بأن ما يحدث اليوم للأسف الشديد، هو حضور خطاب السياسة المكرور الممجوج المنمط, الذي نعرفه ونعلم كل تفاصيله ورموزه وكلماته وأهدافه، والذي يقدم نفسه في كل مكان بذات التشكل وذات الصورة وذات اللغة وذات الوجه المتجهم المتشابه في أدق التفاصيل، كما تتشابه طرابيش الجنود. وحينما تتضخم السياسة وتنشر خطابها الإيديولوجي الدوجمائي في عموم الأفق الثقافي تنحسر أو تغيب كل الخطابات الأخرى- العلمية والأدبية والفنية، ذلك لان السياسة- كما هو معروف- لا حد لرغبتها في التمدد والانتشار والاستحواذ والتوسع في كل الفضاءات، فالسياسة تكره الفراغ، والسياسية من حيث هي ممارسة للقوة كما يقوم (ميشيل فوكو)، ليس لها من حدود غير ذاتها، أنها لا تريد ولا تحب إلا ذاتها، وهذا هو قانون القوة، فالقوة ليس لها من هدف غير القوة والمزيد منها، ومن ثم فهي سعى دائم لامتلاك وقولبة كل ظواهر الحياة الطبيعية والاجتماعية الثقافية والاجتماعية- المادية والرمزية، سعي لا يكل من أجل جعل كما ما هو خارجها يدمج في الداخل، داخل بنيتها الفعلية والمتخيلة، ذلك في سبيل تعزيز قوتها، فحينما تحشر جميع العناصر الفاعلة في حياة المجتمع: الأرض والسلطة والثروة والنفوذ، والاقتصاد والدين والأدب والعلم والثقافة ... الخ حينما تتمكن السياسية من هضم وإعادة قولبة لكل عناصر القوة الواقعية أو المتخيلة في بنيتها الكلية المتوحشة، ينام الوحش بأمان، حينها تغدو السياسة كما يقول دللوز « هي التي تقول ولا تتكلم» إذ يصبح كل خطاب أو قول أو تعبير حتى وان ارتدى أو لبس أزياء الأدب والعلم أو الثقافة، فهو يكرر البنية ذاتها، ويكرر الخطاب ذاته بألفاظ وتعابير مختلفة. جزء ويستطرد قائلاً: لم يحدث من قبل في كل تاريخنا أن يكون للسياسة مثل هذا الحضور الطاغ في الممارسة والفكر والأدب، لقد ظل هناك هامش ولو ضئيل- حتى في أحلك الظروف- للخطابات الأخرى الأدب والعلم والفن، وكان الأدباء والمثقفون في الماضي- يستطيعون التحليق والغناء في فضاءات أكثر رحابة وحرية وفاعلية، فلم يكن المثقفون في أي وقت من الأوقات جزءاً من مؤسسات السلطة السياسية، كما هو الآن بل ظل ينافح في سبيل الحفاظ على قدر محدد من المسافة المحترمة بين السلطة والأدب والثقافة- مسافة محددة وواضحة وفاعلة ومحترمة وكانت السلطة تسعى إلى مراضاة الثقافة وتمنحها ما تستحقه من التقدير والاحترام والهيبة والجلال. طفح وعن المثقف في الماضي ومثقف اليوم يقول: أنا لا أحب المقارنة في الأحوال التاريخية والاجتماعية؛ لأنني أؤمن بفكرة التاريخ الذي لا يتكرر أبداً مرتين حتى وإن بدا كذلك، وكل عصر هو مسئولية أهله وجيله، وحتى لا نحمل المثقف اليوم بما ليس وظيفته من المهم أن ننظر إلى المشهد بكليته، فنحن في لحظة انحسار لسلطة ومكانة المثقف المحترم وبروز وعاظ السلاطين وأنصاف المثقفين، الذين يعرضون بضاعتهم في سوق المسيطرين على مقاليد القوة والسلطة والثروة، ثمة طفح هائل من السطحية والخفة والابتذال وغياب الإحساس بالمسؤولية، وتلك ثقافة تم تنميطها على مدى العقود السابقة من الخراب المنهجي، لكل شيء طيب وجدير بالتنمية والرعاية، والناس على دين ملوكهم، والقوة هي التي تشكل المجتمع وليس العكس، ونحن نشكل مؤسساتنا ثم تقوم هي بتشكيلنا، فكيف ما كانت نكون!..