ونحن في الذكرى ال 51 لثورة 14أكتوبر المجيدة يجد المتتبع لخطوات اليمن منذ فجر ثورات التحرر من الاستعمار والاستبداد أنها قد ظلت الطريق في خطاها وتحولت أهداف ثوراتها إلى مجرد شعارات فقط، فما إن خرجنا من براثن الحكم الإمامي حتى وقعنا في مخالب حكام لم يعرفوا قط معاني الوطنية - وإن كانوا يعتبرون أنفسهم وطنيين من الرعيل الأول- أوهمونا بأنهم يحملون رسالة تنموية، ولديهم مفاجآت نهضوية للوطن ستمكن من إخراجه من حالة الجمود السياسي والركود الاقتصادي. وما إن تحررنا من الاستعمار وبدأنا نتذوق طعم النصر بالتحرير، حتى أصبحت بلادنا ساحة معركة تتصارع فيها بعض القوى لبسط نفوذها وهيمنتها أو لفرض أجندتها، ولم نبنِ جيشاً وطنياً قوياً بل عملنا على تدمير الموجود - الجيش - بكل السبل، وتفتيته بشتى الطرق في صعدة وفي أبين وعمران، وأخيراً في العاصمة صنعاء، ولم نؤسس للمجتمع الديمقراطي العادل الذي يتساوى فيه الجميع، بل عملنا بكل طاقتنا على تمزيق أواصر الأخوة والمحبة، وزرعنا الطائفية والمذهبية القاتلة، تارة بالفتاوى الدينية وتارة أخرى بالتحريض العصبي الطائفي والحزبي من قبل السلطات الحاكمة السابقة أو الفئات الدينية الحزبية والمذهبية، كما إننا لم نسع إلى تحسين مستوى الشعب، وإن ما بذل من نزر يسير من الجهد كان لتحسين مستوى عصبة من رجال القبائل وأصحاب النفوذ، وأصبح الشعب اليمني من أفقر الشعوب على الأرض وأشدها معاناة من الجهل والمرض، وبقيت بلادنا تقبع في ذيل دول المنطقة والعالم من كافة الجوانب: الاقتصادية والسياسية. بقي الشعب يعيش على أمل أن يزول هذا الحال وتنتهي هذه المأساة، إلا أن الوضع والحال بقي كما هو، وكان الأمل الأوحد الذي يوحي بأن حياة كريمة ستتحقق هو أمل الوحدة اليمنية، الذي كان يراه الشعب في كلا الشطرين، إنه سيكون المخرج والمنقذ من الوضع المأساوي الذي وصل إليه الوطن، إلا أن النخب الحاكمة حينها عملت على تسفيه حلم الشعب في تحقيق الوحدة اليمنية التي كانت شغله الشاغل، ومطلبه الوحيد في كافة المحافل المحلية والإقليمية والدولية، وعندما قرر القادة السياسيون في الشطرين توقيع الوحدة، لم يكن الشعب على اطلاع بما يجري وما يدور خلف الكواليس السياسية، حيث سعت الأطراف السياسية إلى الوحدة بشكل انفرادي لتحقيق أمجاد وهمية وتلبية رغبات أنانية. زدادت المعاناة وكثرت الأعباء وثقلت، بل إن ثقلها أصبح ينوء بالشعب، وتفاقمت المأساة، واتسع الخرق على الراقع، واستفحلت حالة الركود وغاب المشروع النهضوي تماماً عن الساحة، وتحولت المفاجآت التي وُعِد بها الشعب في الشطرين سابقاً إلى فاجعات للوطن الموحد، وأصبحت المآسي من الروتين اليومي في حياة كل يمني، وطغت الأنانية الحزبية والفئوية واستأثرت بخيرات البلاد، وبقي الوطن والمواطن يأملون بالغد الجمل الذي سيأتي حتى وإن كان متأخراً!! كانت تلك هي نتائج حتمية لعدة أسباب منها على سبيل العد لا الحصر: الاستفراد بالقرار السياسي، وهو أهم أسباب تردي أوضاع البلاد، بالإضافة إلى أن اليمن تعاني من فقر في الكوادر الوطنية، بالإضافة إلى نقص حاد في النخب المسؤولة لتضع برنامجاً وطنياً نهضوياً، فبالرغم من كثرة المشاريع التي طرحت هنا وهناك من قبل هذا الفصيل أو ذاك، إلا أن كل هذه المشاريع لم تترجم إلى برامج تلامس حاجة الوطن والمواطن ولم تلب أدنى تطلعاتهم، بل تحول إلى برامج للثراء الخاص وبناء امبراطوريات مالية على حساب المواطن، وأيضاً -وهو ما زاد الطين بلة - إن النخب التي ظهرت على استحياء في الساحة اليمنية، وجدت لتأدية دور هامشي مضلل، يساهم في تغطية المفاسد التي كانت تمارسها السلطات، ولم تقم بدورها الوطني المفروض عليها بمسؤولية، بل استطابت دور الطفيليات، ولم تشعر بالحرج لما تفعله بالبلاد، واستمرت في عبثها، تستنزف موارد البلاد في تطفل فاضح مع السلطات الحاكمة، مما أدى بدوره إلى غياب الرقابة والمحاسبة من قبل هذه النخب والتيارات، بالتوازي مع غياب الحس الشعبي المطالب بالتغيير ومحاسبة الفاسدين، بل إن كل المظاهر المطالبة بالتغيير كانت تتم لغرض التقاسم والحصول على مكاسب فردية أو الوصول إلى مناصب في الدولة، وتم استغلال الشعب أسوأ استغلال لصالح جماعات وفئات هي لا تشعر حتى بأبسط احتياجاته. عانينا الأمرّين في كلا شطري اليمن قبل الوحدة في ظل الحكم الشمولي، وكان مشروع الوحدة اليمنية في نظر الجماهير والنخب الوطنية -الميئوس منها أصلاً - في كل اليمن، هو المخرج والسبيل الوحيد لبناء يمن يشار له بالبنان كنموذج في التقدم والرخاء، لهذا كانت الجماهير تتحرق لهفة وشوقاً تطالب بالتسريع في توقيع الوحدة، التي تحققت ، وتم التوقيع عليها في مايو 90، إلا أن الفرحة لم تتم فقد بدأت التصفيات الجسدية للشخصيات القيادية القادمة من الجنوب ومعها الوجوه الوطنية في الشمال، وتمت ممارسة التهميش والإقصاء كخارطة إدارية لحكم البلاد، وبدأت تطفو ملامح الاحتقان السياسي والشعور بالغبن لدى الكثير خاصة في الجنوب، مصحوبة بتجاهل صارخ للوضع الملغوم وتغاضي مخيف للواقع المظلم، مما أثمر فيما بعد اشتعال حرب ظالمة كانت نتائجها مؤلمة، واستمرت مسلسلات التضليل والفساد والإفساد في كل هياكل الدولة، كما شكل الانفراد بالسلطة وهدر الموارد والعبث بمقدرات البلاد أبرز معالم هذه المرحلة، وغابت المساواة والعدالة وأسس العيش المشترك وغابت المواطنة التي كان من المفترض أن تكون العنوان الأبرز لدولة اليمن الموحد حتى وإن كان بالقوة. اتجهت اليمن الموحدة - عنوة - إلى منحدر أعمق من الفقر والتهميش، وسلكت طريقاً مظلماً لا يعرف نهايته نتيجة التصفيات الجسدية للشخصيات والهامات الوطنية، واستغلال السلطة والثروة بأسوأ وأبشع صوره، وغياب التخطيط الاقتصادي في استغلال موارد البلاد واستيعاب عائداتها، مما جعل الثروة تبقى في أيادي عابثة، فكان الهدف الأول للسلطة وما تحتها ومن والاها هو تحقيق الثراء السريع دون أي رادع، حتى وإن كان الثمن هو ضياع اليمن. كان من الممكن للوحدة اليمنية أن تتحقق بشكل أفضل وبصورة أجمل مما حصل، لو أن كل الأطراف حكمت لغة العقل وآثرت المصلحة الوطنية الشاملة على مصالحها الخاصة، وغضت الطرف عن المكاسب المادية التي سوف تجنيها، كما كان من الممكن لها أن تجنب البلاد حرباً مدمرة أكلت الأخضر واليابس، لو أنها تركت الشعب يقول كلمته بصدق، ولو كان الشعب حياً وأكثر وعياً وحرية لخرج رغماً عن كل العوامل التي كان يحتكم إليها، للتعبير عن رفضه للحرب ورفضه للقوى السياسية المتصارعة ونبذها وراء ظهره. لاشك أن هذا كان ممكناً أن يقع لو أن الشعب كان يملك إرادته بيده، وقادراً على تقرير مصيره بنفسه بعيداً عن التعبئة والتبعية المريضة فولاؤهم المطلق ليس للوطن بل لمشايخهم وسادتهم. لم يسلم اليمن من نتائج الصراعات السياسية والتي دائماً ما تكون مؤلمة، ولا يمكن معالجتها بسهولة ويسر، كما لم يسلم من الآثار التي ترتبت على تجاوزات السلطات على الإنسان وحرياته، فقد دخل اليمن في عهد جديد من مصادرة الحريات وتكميم الأفواه والتغييب القسري للشخصيات التي كانت تنادي بالحرية والعدالة، ومن أبرزهم الحاضر في ذهني دائماً الصحفي عبد الإله شائع الذي تم رميه في غياهب السجون دون حتى أن يعرف ما هي التهمة الموجهة إليه. كان الإرهاب والأعمال الإرهابية والتخريبية طيلة عقد ونيف هي أحد هذه الآثار، فقد زاد أفراد الجماعات المسلحة بشكل غير مسبوق، واستمرت الضربات الإرهابية تدك مقدرات الشعب وتهد مكتسباته هداً.. فعندما نتحدث عن وطن تحت الأنقاض فنحن نعني ما نقول فعلاً وليس مجرد عنوان، بل هو واقع معاش، لهذا فإننا نتطرق بالضرورة في حديثنا عن الإرهاب إلى الجماعات المسلحة في الشمال والجنوب، فالجماعات المسلحة في الشمال والتي تخضع لبعد قبلي بحت، عملت على ضرب البنى التحتية للبلاد، فقد تركزت هجماتها على ضرب الكهرباء والنفط، مما كبد البلاد خسائر فادحة نتيجة للاعتداءات المتكررة على هذين الكيانين الحيويين، بالإضافة إلى التقطعات المسلحة والنهب المنتظم لكل ما يمت للدولة بصلة، أما في الجنوب فقد تم تصدير التشدد الديني ورفده بالأفراد والمجندين، فظهرت الجماعات المسلحة بأشكال تنظيمية تحت عدة مسميات كان آخرها تحت مسمى «أنصار الشريعة»، والذي تشكل بعد اختفاء مسمى «تنظيم قاعدة الجهاد في جزيرة العرب» الذي تأسس في 2009م نتيجة لاتحاد جناحي القاعدة في اليمن والسعودية الذي كان يقوده ناصر الوحيشي، فقد ضم عناصر القاعدة وحركات مسلحة كانت في السابق تخالف القاعدة. لعبت هذه الجماعات دوراً رئيسياً فيما وصل إليه اليمن اليوم من تدهور وتشظي، وبالرغم من أن الجيش اليمني وجه ضربات موجعة إلى هذا التنظيم، إلا أنه استطاع ترتيب صفوفه من جديد. وإذا اعتبرنا أن الهجمات التي وقعت في مجمع الدفاع «العرضي» ليست بفعل فاعل من أفراد الجيش، وآمنا وصدقنا أنها هجمات إرهابية، فهذا يعزز المزاعم التي تقول: إن القاعدة بذراعها في اليمن وشبه جزيرة العرب تملك من المقدرة ما يفوق التوقعات والخيال، كيف لا.. وقد استطاعت الوصول إلى العمق الأمني والعسكري للبلاد، وتمكنت من الضرب وبقوة في هذا العمق الموجع. لا يخفى على أحد أن الوجود الطائفي والذي طغى على الساحة، وظهر بلون فاقع ومؤذي لكل من تلامس قدماه تراب اليمن، ساهم في تغذية الصراعات المذهبية المسلحة مع التنظيمات المتشددة، وهو ما يؤكد أن الحفاظ على أمن واستقرار وسلامة البلاد وفرض سيادة الدولة لا يتأتى من سياسة «الطبطبة» والمجاملات والمسايرة، وبذل المزيد من التنازلات لإرضاء طموح القوى الإقليمية، وإرواء تعطشها لابتلاع البلاد والمنطقة كلها، فالاستقرار بناء متماسك تصنعه التوازنات الضرورية للأقطاب السياسية ذات البعد الوطني غير المشكوك فيه، بالإضافة إلى دعمها لإخراج مشروع سياسي طموح وتمويلها بالأدوات السليمة والمؤثرة، مما يسهم بشكل فاعل في الحفاظ على الوفاق والاتفاق على إطار وطني يحمي الجميع دون إلغاء أو تهميش لأحد. لا أقصد التحريض أو التعبئة، وإنما أتحدث عن ضرورة تطوير النظام السياسي في البلاد، وأهمية خلق مشاريع سياسية جادة وفعالة لتطوير البنية السياسية، والحفاظ على استقرار البلاد وحماية أركان الدولة من مشاريع الاختراق الإقليمي والدولي، وذلك بتظافر كل الجهود من كافة الأطياف المشاركة في السلطة ، وأن ننظر على أي قصور منها بعين الرقيب والحسيب وأن لا نمرر أي تهاون أو تقاعس لأداء المسؤوليات، بالإضافة إلى التيارات الخاملة على الساحة والمحجمة عن العمل السياسي المثمر إلا من أساليب الدس المنحطة والمتباطئة والانتهازية. في الأخير لا يسعنا إلا أن نتذكر شاعر العروبة الأستاذ الكبير غازي القصيبي – يرحمه الله - في برقية عاجلة إلى بلقيس: ألوم صنعاءَ يابلقيسُ أم عَدَنا؟ أم أمًةً نسيت في أمسها يزَنا؟ رحمك الله يا قصيبي، لو أبقاك الله إلى اليوم ورأيت ما حل بأرض السعيدة ماذا كنت ستقول ومن كنت ستلوم؟. [email protected]