حين نتحدث عن تعز وموقعها مما يجري من صراع فنحن في حقيقة الأمر ننقل الكاميرا إلى مساحة مغايرة في الخارطة الجيوسياسية للجمهورية اليمنية .. مدينة تشكل رافعة للنشاط الثقافي والفكري والمدني في كل المحافظات .. وإنسانها لا ينشغل بصراعات الهيمنة والإخضاع .. ولا يميل إلى تشكيل زعامات تتجاذب أطراف السلطة .. في تعز أعطني ضابطًا يحفظ الأمن وقاضيًا يفصل في الخصومات أعطك الإنسان الذي يقول: تحيا الدولة .. وكل السياسيين القدماء والمحدثين يدرجون هذه الحقيقة في حسابات السياسة وينطلقون منها وإن أظهروا غير ذلك. الإنسان في تعز بنفسية مدنية مشغولة دائمًا بما هو ممكن سياسيًا وسلميًا, وعلى هذا النحو يأتي حضوره في السلطة, وسبق لي أن قلت في مقال منشور قبل بضعة أشهر: إن تعز لابد أن تكون – وهي كذلك بطبيعتها وتركيبة سكانها – الشجرة الوارفة الظلال التي يستريح تحتها اليمنيون من عناء التناحر والكراهية, لاسيما إذا استمرت كرة اللهب في التدحرج. تدحرجت الكرة, وأصبح الجميع اليوم معنيًا بترك تعز مدينة كما خلقها الله, فمن المجحف أن يجري إجبارها على ارتداء قميص لا يناسبها. أولئك القلة من المدنيين الذين اعتادوا على التمنطق بالسلاح وسط المدينة, اسألوهم عن انطباعات الناس التي يقرؤونها في عيونهم وابتساماتهم, سيقولون: نبدو أمامهم أشبه بكائنات فضائية حلّت ضيفًا ثقيلاً على كوكب الأرض..!!. أنت نفسك أيها القارئ: ما الذي ينتابك حين ترى مدنيًا يحمل قنبلة على صدره؟! وبالمناسبة فقد مر بجانبي في أمس الأول شخص مسلح يحمل قنبلة أشبه بالقارورة وقد انمحى بعض لونها دلالةً على أنها قديمة وأن الرجل أفنى عمرًا في حملها ولم يفتر .. حينها أخذت تذهب بي الشكوك والمخاوف كل مذهب: ماذا لو أنها انفجرت؟, بل إن أسئلة ملحة لاتزال تفرض نفسها على تفكيري حتى اليوم من مثل: كيف يطمئن هذا الرجل على قنبلته حين ينام؟ وماذا لو أصيب بدوار أو بنوبة صدرية وهو يسير بها في وسط الشارع؟ . عمومًا, تعز لم تجرب يومًا صناعة الموت ولاتزال مصرةً على أن تكون نموذجًا في صناعة الحياة كما كانت نموذجًا رائدًا في صناعة التنوير بدءًا من ثلاثينيات القرن الماضي .. وأما الأحداث الأخيرة فقد كشفت بما لا يدع مجالاً للشك أن بصيص الأمل في إنعاش الوطن وإنقاذه من هذا المأزق لن يكون إلا من تعز .. حيث الطموحات تذهب لأن تكون مثقفًا يستعير الكتب لا مرافقًا مهنجمًا مع شخصية نافذة .. وأن تكون تاجر برمجيات وحواسيب لا تاجر سلاح, وأن تكون متسابقًا في برنامج مواهب لا مسابقًا على احتلال التباب واستحداث المتارس. [email protected]