لا أدري لماذا السياسي اليمني على استعداد دائم للفجور في الخصومة والنزوع إلى شخصنة العداء؛ مع أننا في كثير من الأحيان نجد العلاقة بين الأنا السياسية وبين الآخر المنافس ليست على درجة من التأزُّم يستحيل معه التفاهم والانسجام, فبإمكان لقاء واحد تحت سقف بيت أو تحت ظل شجرة أن يخلق روحًا من المودّة والقبول بالرأي في ظل تبادل عبارات اللوم المازحة التي تكشف لنا أن ذلك الفجور في الخصومة لم يكن إلا انفعالاً وارتجالية غير محسوبة وهناك ما يغري السياسيين بها وبإمكانهم ممارسة العمل السياسي دونها. في ذروة الخلاف ستجد السياسي اليمني وإعلامه المعبّر عنه يتفنّن في الحديث عن الآخر بأوجع المصطلحات وأبشع الأوصاف التي لا تهيج فقط القواعد والأتباع والموالين وتشحنهم بأطنان من الكراهية لهذا الآخر, وإنما هي أوصاف تكفي لتجييش الأرض كلّها ضد هذا الآخر, ومحوه من صفحة الوجود, وتطهير الأرض من رجسه, وحين يلتقي الطرفان يجري التخلّي عن تلك اللغة تلقائيًا, ثم إذا حدثت مشكلة وعاد الخلاف إلى الواجهة عادت تلك "الأروكسترا" الفجورية لتعزف موسيقاها النشازية من جديد..!!. قلت قبل قليل: «إن هناك ما يغري السياسيين بهذا الفجور في الخصومة» وأنا أقصد بذلك المؤثّرات التي تحوّل الصراع إلى معركة وجود, فإما أن تسارع أنت إلى أكل الآخر أو يسبقك هو إلى التهامك، صحيح أن هناك صراعاً على الهيمنة؛ ولكن يبدو لي أن هذا الفجور تقف وراءه شدّة التأثر بالتصوّرات الإقليمية والحسابات الدولية التي تذوب الأطراف فيها كل الذوبان. صحيح أن هذه التصوّرات والحسابات لا نستطيع أن نعزل أنفسنا عنها – ولو جزئياً - ونحن في هذه الحالة؛ فمن حق الخارج القريب والبعيد أن يقول: إنه يتأثّر بما يحدث ولابد أن يعرف ما الذي يجري وما الذي ينبغي أن يكون. إذا كان الأمر كذلك فما الذي ينبغي للسياسيين في اليمن أن يصنعوه وهم في أكثر من مرة يثبتون قدرتهم على صنع الحلول..؟! أعتقد أن كل السياسيين اليمنيين بحاجة فقط إلى إدارة صحيحة للارتهان للخارج المؤثّر في الداخل؛ مادمنا غير قادرين على التنصُّل من هذا الارتهان الذي يقتضي الالتزام. يحتاج السياسيون إلى عقلنة التصوّرات الواردة إذا كانت جامحة، يحتاج السياسيون إلى أن يتفاعلوا مع الجماهير ليعرفوا من خلالهم عن الممكن وغير الممكن, والمقبول وغير المقبول، فعلى السياسي إدراك أنه في وسط شعبي يراقب كل ما يحدث ويحلّل كل الخطوات. إن كل ما لا ينسجم مع الواقع يظل في نظر الجمهور عبئًا تتهيّأ النفوس ذاتيًا لكراهته والبحث عن بديل صحيح له أو أقل ضررًا منه, والسياسيون يعرفون أن هناك من المواقف أو التصرُّفات التي لا يكتب لها النجاح ولو جنّدوا وسائل كثيرة لترغيب الجمهور بها. وإذن فحسن التعامل مع الواقع والعمل على ترشيد الخطاب وعقلنة السلوكيات حاجات ضرورية لمن يمارس السياسة في هذا البلد غير المستقر، فسرعة التصالح والقدرة على التفاهم والانسجام الذي يحدث أحياناً بين الفرقاء يدل على فاعليتهم, ولكنه في الوقت نفسه دليل على أنهم حين يختلفون لا يختلفون بشكل صحيح, فحينئذٍ تجد كثيراً من الأمراض الثقافية التي تنشط في عقولهم وتسيطر على تفكيرهم, وتجد القصور الواضح في إدارة العلاقة بين متطلبات الداخل وبين ما يتصوّره الخارج. أعتقد أنني في مقال سابق قبل بضع سنوات وقفت أمام البيت الشعري القائل: «إذا احتربت يومًا فسالت دماؤها تذكرت القربى ففاضت دموعها» أتذكّر أنني قلت آنذاك: إن هذا البيت في ظاهره احتفاء بقيمة التصالح؛ ولكنه في الوقت نفسه يرسّخ في عقولنا حتمية الصراع وحتمية التهييج وصولاً إلى الاحتراب وإسالة الدماء؛ أليس الأولى ألا تسيل الدماء، أليس الأولى أن نترك الذهاب الخطير الذي نبحث بعده عن العودة إلى الصُلح..؟!. [email protected]