لا يمكن أن تواجه الأمة الإسلامية تهديدات العصر الحديث ومخاطره وأدواته الاستعمارية، ما لم تعتمد الحرية وسيلة أساسية في حياتها, فالحرية وحدها لها القدرة على تغيير ملامح الواقع، عن طريق إتاحة الفرصة للإبداع والاجتهاد وإبداء الرأي؛ ومناقشة قضايا العصر ومشاكله بصورة علمية ومنهجية. إنه بدون الحرية يستحيل تحقيق أيِّ مشروعٍ كان، سياسيا، أو فكريا، أو اجتماعيا، أو اقتصاديا. وعلى الرغم من أن الأمة الإسلامية تعاني من سطوة قيد الحريات، يبقى ما هو أدهى من ذلك وأمر، وهو غياب ثقافة الحوار عن قطبي الأمة الإسلامية (السنة، والشيعة) وما يتفرع منهما من جماعات دينية تشكل في مجملها القوة الفاعلة في تصويب مسيرة الأمة أو سوقها إلى الجحيم. فهذه الجماعات لا تؤمن بالحرية ولا بالحوار ولا تقبل بهما حتى الآن. إن ما تشهده الأمة الإسلامية اليوم من تنافر وتباعد وتخاصم وتعارك بين قطبيها بشكل أساس، لمؤشرٌ خطير يهدد حياة الإنسان المسلم في كل مكان، ويعصف بكل مقومات الأمة الدينية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية. لاسيما وأن كل قطب كما هو ظاهر للعيان يُفَّعلُ بكل ما أوتي من قوة من وسائله الإعلامية (المرئية، والمسموعة، والمقروءة)؛ لمواجهة القطب الآخر، وكذلك تعبئة عقول أصحابه بالأفكار والمعلومات التي تقلل من شأن القطب الآخر، بل إن موجهات الخطاب تصل إلى درجة الإلغاء والتكفير، والدعوة بقوةٍ لمواجهته بوصفه شراً مبيناً، وأن خطره على الأمة الإسلامية يفوق خطر اليهود والنصارى، كما نسمع من أفواه خطباء المساجد وأئمتها، ونقرأ من كتب وكتيبات وأشرطة ومنشورات توزع مجاناً للمارة في الطرقات والشوارع والمدارس والجامعات. إنه خطابٌ لا ينتج إلا ما نراه من الكراهية والعنف والانتقام وسفك الدماء، وتشتيت عقول الأمة ومقدراتها، ويشفي صدور أعدائها ويُمكنَّهم من رقاب الأمة وثرواتها. إن أفسد شيء للأديان، كما يقول الشيخ محمد الغزالي، هو غرور أصحابها، إذ تحسب كل طائفة أنها ملكت مفاتيح السماء، وأنها الوارث الأوحد للجنة، وهذا الغرور ما نراه يُغيَّبُ مبدأ الحوار على أساس أن الآخر باطلٌ في كليته، فكيف يتم التحاور معه، وهذا جهلٌ لا بعده شيء؛ لأن كلَّ قطبٍ يؤمن بفكره ومذهبه، ولا يستطيع أن يلغيه الآخر بالمرة، أو يستأصله. ومن هنا فإن اعتماد الحوار هو الوسيلة الأنسب لتهدئة النفوس وإزالة التوترات، والقادر على التوصل إلى خطوطٍ عريضةٍ تلزم الطرفين على عدم تجاوزها من أجل مصلحة الأمة وبقائها على قيد الحياة. ولاسيما وأن معظم الخلافات الفقهية بين القطبين تقع في دائرة الفروع. ومع أن السياسة في البدء هي من بذرت الفتنة بين أبناء الأمة وعملت على تغذية الخلاف من خلال تبني هذه المذاهب وتوجيهها؛ لتحقيق مصالح آنية، إلا أنها في الحاضر والمستقبل -كما يبدو- غير قادرة على إصلاح ما أفسدته، ومن هنا يجب أن يعي علماء الأمة ومفكروها من أبناء القطبين أن مسئولية الحوار تقع على عواتقهم؛ لإخراج الأمة من نفق مظلم قد يؤدي إلى التنكيل بها، أو استمرارية العداوة والكراهية والاقتتال فيها ما بقي الوجود. إن الحوار الذي يجب أن يسود لا بد أن يبتني على أساس احترام الآخر وفكره وما يؤمن به، ووجوب التعايش معه ومحاورته بالحجة والعقل والمنطق، وضرورة مواجهة المسائل الخلافية بروح علمية ومنهجية تعتمد على الدليل والبرهان، والبحث عن الحقيقة من أجل الحقيقة (فالحق أحق أن يتبع) لا من أجل الجدال أو التعصب أو الجهل بالآخر، أو النيل من علمه أو فكره أو التقليل من قدره، كما هو سائدُ اليوم. ولنضرب مثالاً على ذلك، فحينما سئل العلامة عبد العزيز بن باز عن الزواج بين السنة والشيعة، فأجاب “لا ينبغي”، ومثل ذلك جاء في فتاوى آية الله على السيستاني، إذ سئل عن زواج الشيعية من سني، فأجاب: “لا يجوز إن لم يؤمن الضلال”. فأي روح عدائية يحملها هذا الخطاب وهو يأتي في هيئة فتاوى دينية تلزم الأتباع على تطبيقها في الواقع المعاش. إنه أسلوب عقيم لا يستند إلى شرع أو منطق أو عرف، وإنما مبعثه الرؤية القاصرة، والعصبية العمياء، ومجافاة روح الدين وسماحته، فالدين يجيز الزواج من كتابية، فكيف لا يجيز الزواج من مسلمة. إنه صنيعٌ يبتعد عن لين الخطاب الذي أمرنا به الدين الإسلامي، وحكمة القول، والوعظ الحسن، والدعوة إلى الوحدة، وعدم التنازع، يقول تعالي:«ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم»، ويقول سبحانه: «واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا». إن ما يؤسف له أن هؤلاء العلماء قدوة الأمة لا تتوافر لديهم النية الصادقة والفكر الثاقب؛ لحصر نقاط الاختلاف وتطويقها وتجاوزها إلى ما فيه نفع الإسلام وصلاح أمته، إنهم يجهلون حقيقة الإسلام، فهو دين تراحم وتآزر وتعاطف وليس دين فتنة وغلو وإقصاء وتنافر، أنه دين حوار وقبول واجتهاد وكرامة، وليس دين جدل عقيم، وتكفير وتخويف وإذلال، إنه دين العقل والحركة المستمرة والانفتاح وليس دين الجمود والثبوت والتقييد. إن التأكيد على الحوار بين قطبي الأمة ليس عبثاً فقد أصبح ضرورة ملحة، بل واجباً دينياً؛ لأن أعداء الأمة يتربصون بها اليوم أكثر من أي وقت مضى، ويعملون بكل جد على إذكاء جمرة الخلاف والصراع، وعلماؤنا ومفكرونا يغضون الطرف عن ما يحاك للأمة دون مراعاة أدنى اعتبار إلى الخلفيات الصهيونية والغربية المستفيدة من شرخ الأمة وتمزيقها؛ ولهذا السبب فالحوار هو الوسيلة المثلى لتجاوز الأزمة، فعن طريقه نصل إلى آراء جديدة يتعايش معها الطرفان وتحقق التقارب بينهما، ولا حرج في أن يتعبد كل طرف بمذهبه، فكلٌ من رسول الله ملتمس. إن العبء الأكبر في لملمة شتات الأمة وتوحد كلمتها وإيقاف مهزلة التنافر والتباعد والتكفير يقع أول ما يقع على رجال الدين من القطبين، فهم الأقدر على تصويب أخطاء السياسة بحكم قربهم من عامة الناس، وفاعلية كلمتهم فلهم السمع والطاعة باعتبارهم حملة الدين وحفاظه، ولذا يجب أولاً البعد عن المكابرة والغرور، فالاختلاف قد تحول حتماً إلى خلاف بل إلى حروب طاحنة أهلكت الحرث والنسل كما نرى في العراق وسوريا وليبيا واليمن. [email protected]