حين يقرّر إنسان ما تعطيل عقله بنفسه تظهر على تصرفاته العجائب من كل نوع، ويصبح أضحوكة لمن حوله حتى المجانين.. بالأمس رأيت رجلاً مجنوناً على رصيف الشارع وهو يضحك بحرارة. نظرت إليه متعجباً وقلت في نفسي: كم أنا محتاج إلى مثل هذه الضحكة فقد مرّ عليَّ الكثير من الزمن ولم أضحك من قلبي كما يفعل هذا الرجل المجنون وهو في عالمه الخاص الذي يبدو أنه صار أفضل من عالمنا هذا المثقل بالهموم والمتاعب، والذي يُفترض أنه محكوم بالعقل والعقلاء. لحظات قليلة ليتضح سرّ تلك الضحكات المدويّة.. كان المجنون ينظر إلى رجل يقتاد خلفه تيساً بطريقة لا تدل على وجود للعقل مطلقاً. أمسك الرجل بالتيس من يديه بعد ما جمعهما معاً ورفعهما من الأرض ومشى يقتاده والتيس يحاول جاهداً الوثب برجليه ليجاري الذي أمامه وعبثاً يفعل ذلك. لم يستطع التيس مجاراة الرجل وهو مقيّد اليدين فتحوّل الأمر إلى تعذيب لهذا الحيوان بطريقة فيها الكثير من البلاهة والغباء. هذا المشهد جعل الرجل المجنون يضحك بطريقة لافتة وله الحق فيما فعل، وقد أثبت رغم جنونه أنه يملك بقايا عقل أفضل مما لدى صاحب العقل ذي الصحة والعضلات المفتولة، ليتضح من هذا التصرّف أنه ليس كل من يدّعي العقل عاقلاً. اقتياد التيس بتلك الطريقة يشبه سياسة البعض في إدارة الدول وطريقة حكم الشعوب.. ثمة من يريد قيادة البلد واقتياد الناس بنفس الطريقة دون تفكير بإمكانية نجاح هذه الطريقة التي تبدو فاشلة حتى عند المجانين، تماماً كما فعل الرجل الذي يقتاد التيس وهو مكبّل اليدين. بالتأكيد لا مقارنة بين طريقة حكم البشر لبعضهم واقتياد النعاج والتيوس، غير أن البعض لا يُفرّق بين هذا وذاك.. أو لعلّها طريقتهم الوحيدة في التعامل مع من حولهم، وهنا تظهر الكوارث تباعاً كنتيجة لهذه التصرّفات التي يصعُب تصنيفها ضمن تصرّفات العقلاء والمجانين معاً. الناس ليسوا قطعان ماشية يُساقون كما شاء لهم الراعي أو المالك.. ولا يمكن أن تنجح سياسة من هذا النوع مع كل الناس.. ثمة من يقبل لنفسه أن يتحوّل إلى ماشية تُساق على هوى صاحبها، لكن لا يمكن للجميع أن يقبلوا بهذا النوع من أساليب الإدارة والحكم، ولا يمكن للجميع أن يقبلوا بأن يكونوا مجرد أدوات بيد غيرهم تُستخدم للأغراض الخاصة والحسابات الشخصية وفي السياسات مدفوعة الأجر ووقوداً في معارك عبثية. على الجميع أن يحترموا عقولهم أولاً فيمنحوها الحرية في التفكير وحساب العواقب قبل وقوعها دون تعطيل أو تنفيذ دون تفكير.. وفي ذات الوقت يجب أن تُحترم عقول المجتمع والناس بشكل عام، لأن هؤلاء يدركون ما يحدث أمامهم ويعلمون جيداً ما وراء كل تصرّف وما هي أهداف كل خطوة تُتخذ في الشأن العام. الناس لن يضحكوا كما ضحك المجنون من تصرّفات العاقل وهو جالس على رصيف الشارع ينظر وقد أفلح في لفت أنظار المارة لذلك السلوك الخاطئ، لأن الأمر لا يعنيه أكثر من مجرد التندُّر على أدعياء العقل الذين يعتبرونه خارج نطاق الفهم والإدراك، وقد أفلح في لفت أنظار الناس ليشاهدوا كارثة تعطيل العقل وعدم إتاحة الفرصة له للتفكير بعواقب أيّ عمل قبل البدء به.. أحسب أن الجميع سيتحرّك لتفادي الضرر المحدق الذي يُراد له أن يلحق بهم جميعاً في مرحلة من صراع لا يحكمه العقل ولا ضوابط الصراع. [email protected]