قاسم الملقب ب" ماو " كان قد فقد عقله وبمدة وجيزة من توحيد البلاد، ومن وقتها والقرية تعرفه ب" ماو المجنون " .وذات لحظة وبعيد بضعة اعوام على جنونه وعلى اجتياح الألة العسكرية لشريط الحدود الواقعة فيه قريته " العقلة " كان الرجل قد استيقظ فجأة وهو بكامل عقله وتصرفه وهندامه . اول شيء فعله هو اخراجه من جيبه ثلاثة ورق نقدية فئة مئة ريال ، مدها لوالده طالبا إياه بشراء كيس سكر للبيت ، ألتفت رب العائلة الى ابنه المجنون ثم اطلق ضحكها مدوية إزاء تصرف كهذا ثم اردف ساخرا : كيس السكر قيمته اليوم يستلزمها علاقي او كرتون لحمل بنادلها ،فكل شيء يا ولدي تبدل وإذا ما عقلك سيظل على هذا المنحى العبثي الذي توقفت عقاربه الزمنية عند حقبة الكيس القمح بمئة وشوالة البطاط بعشرة ريال فأفضل لك العودة للجنان. هذه الحكاية اوردها صديقي الناشط الحقوقي المحامي محمد مسعد العقلة في سياق حديثه عن افعال حاصلة لا تستقيم مطلقا مع واقع الزمن الحاضر .نعم الكثير من التصرفات المشاهدة لا توحي لك ان اصحابها مختلفون عن ماو المجنون دهرا ،فالإنسان وفق تعبير ارسطو حيوان ناطق ، وبما انه كائن متكلم فما عليك سوى الاصغاء لهذه الكائنات المسماة مجازا " قيادات " لتدرك حقيقة الخيط الضئيل الفاصل بين العقل والجنون ، ولتعي جيدا بان منتهى العقل الجنون . اناس كُثر تحسبهم عقلاء وعصريون بحكم انتمائهم ووجودهم في الزمن الحاضر ؛ لكنك وحين تنظر في منطقهم وخطابهم وتصرفهم فلا تجد فيها غير جنونهم وعبثهم ونزقهم وغير ماضيهم المسكونين فيه ولدرجة انهم لن يستطيعوا مبارحته كيما يعيشوا حاضرهم الذي طرأت فيه متغيرات جمة يستحيل القفز عليها او تجاوزها او اهمالها . " قوام المرء عقله " و " لا مال أعودُ من العقل " و " الجنَّةُ مئة درجة ،تسع وتسعون منها لأهل العقل وواحدة لسائر النَّاس " ثلاثة احاديث نبوية اسردها هنا تزكية لفضل العقل والعقلاء على سواهم ، فكما قيل بان دليل عقل المرء يتجسد في فعله . ما نراه الآن من تصرفات طائشة متهورة ليست إلا تعبيرا صارخا لحالة من الهستيريا الجنونية . فحين تكون الوسيلة حجارة وطفولة فذاك يعني اجبارنا للعودة لعهد الانتفاضة الاولى في فلسطين وتحديدا الى سنة 87م فوقتها مثلت الحجر والمزرق اسلوبا مبتدعا للفت انظار العالم الى اطفال فلسطين الثائرين على الاحتلال الاسرائيلي . شخصيا لا اجد ثمة مبرر واحد مقنع لاستلهام تجربة اطفال الانتفاضة وفي واقع شائك ومعقد كهذا الذي يراد فيه استنساخ طريقة نضالية تجاوزها العصر كما واستخدامها الآن ليس إلا ضربا من صحوة مجنون العقلة . معكم جماهير تحسدكم عليها أية معارضة ، ولديكم شارع حي لا يتوقف او ينام أو يهدأ للحظة ؛ فكيف بكم تتركونه مستجيرين بجماعة مسلحة أو اطفال حجارة ؟ البعض سيقول قادحا : انتم لا يعجبكم العجب فقناة " عدن لأيف " لا ترضي مزاجكم ، ومن يحمل البندقية للدفاع عن شرفه وكرامته او لمقاومة المحتل ايضا تعدونه مارقا ومجنونا ! . قد يكون جزءا من هذا الكلام صحيحا ؛ لكنه مع ذلك لا ينفي حقيقة الحاجة لقيادة تتماهى مع التطور الزمني والسياسي والتقني والنضالي ، قيادة ضابطة لإيقاع الجماهير ولحركتها ومسيرتها ، قيادة منتمية للعصر وادواته لا قيادة ماضوية متخشبة في الستينات والسبعينات والتسعينات .