د. غسان إسماعيل عبدالخالق لا نبالغ إذا قلنا اننا لم ندرك مدى قرب زماننا من زمن ابن خلدون إّلا بعد أن حل العام 2006م، ولعل مثل هذا الإدراك قد ساور أسلافنا في القرن المنصرم حينما حل العام 1906، فالكلام عن عصر ابن خلدون والمقدمة الخلدونية يعيدنا لا شعورياً إلى زمن أسطوري سحيق، لكننا حينما نستحضر الزمن استحضاراً عقلانياً ندرك أن المسافة التي تفصل زماننا عن زمن ابن خلدون ليست شاسعة، خاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار الشديد اننا لا نتحدث عن السنة التي توفي فيها ابن خلدون بل نحن نتحدث في الوقت نفسه عن السنة التي أصدر فيها الشيخ نصر بن يونس الهوريني الطبعة العربية الأولى من المقدمة بتشجيع من الشيخ رفاعة رافع الطهطاوي أي في عام 1858م ابن خلدون معاصرنا لا نبالغ إذا قلنا اننا لم ندرك مدى قرب زماننا من زمن ابن خلدون إّلا بعد أن حل العام 2006م، ولعل مثل هذا الإدراك قد ساور أسلافنا في القرن المنصرم حينما حل العام 1906، فالكلام عن عصر ابن خلدون والمقدمة الخلدونية يعيدنا لا شعورياً إلى زمن أسطوري سحيق، لكننا حينما نستحضر الزمن استحضاراً عقلانياً ندرك أن المسافة التي تفصل زماننا عن زمن ابن خلدون ليست شاسعة،خاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار الشديد اننا لا نتحدث عن السنة التي توفي فيها ابن خلدون بل نحن نتحدث في الوقت نفسه عن السنة التي أصدر فيها الشيخ نصر بن يونس الهوريني الطبعة العربية الأولى من المقدمة بتشجيع من الشيخ رفاعة رافع الطهطاوي أي في عام 1858م وهو ما يجعل من السنوات التي أعقبت تأليف المقدمة امتداداً لواقع الأفول الذي اضطلع ابن خلدون بالتأشير عليه،كما يجعل من السنوات التي أعقبت إصدار الطبعة العربية الأولى امتداداً للهاجس الخلدوني بصيغ مختلفة حتى يومنا هذا. وقد يتحفظ البعض على قولنا بأن السنوات التي فصلت بين وفاة ابن خلدون وبين إصدار الطبعة العربية الأولى من المقدمة وتبلغ «452» سنة هي سنوات أفول لأسباب تتعلق بصعود الدور العثماني في التاريخ الإسلامي والعالمي، لكننا على الرغم من قناعتنا بأن هذا الصعود قد كان مقصوراً على الناحية العسكرية فحسب، نؤشر في الواقع على خفوت الصدى الخلدوني لدى من جاء بعده إلى الحد الذي يمكننا القول معه بأن هذا الصدى الخافت قد كاد يميل إلى الإدانة كما نلاحظ عن ابن حجر العسقلاني في «رفع الإصر» وعند السخاوي فى «الضوء اللامع». ولعل هذا الخفوت عائد إلى سطوة هاجس الترجمة الشخصية لابن خلدون والتعريف به على هاجس التعريف بالإنجاز المعرفي الذي اجترحه في المقدمة لدى من ترجم له قديماً، وهو ما نرجو أن لا يتكرر في خضم احتفالات الوطن العربي بمرور ستة قرون على وفاته.. أعني أن لا تتحول هذه الاحتفالات إلى ضرب من الندوات التوثيقية لحياة ابن خلدون فيما يجب استحضار الروح والحالة الذهنية الخلدونية التي أنتجت «المقدمة». الخلدونية بأي معنى؟ كم سيبدو أمراً مستهجناً في ضوء العديد من الندوات والمؤتمرات التي شهدتها أقطار الوطن العربي احتفاءً بمرور 600 عام على وفاة ابن خلدون .. كم سيبدو أمراً مستهجناً التساؤل عن المقصود بالخلدونية: فهل الخلدونية ضرب من الرغبة في التعويض على الشعور بالذنب العربي التي قد تقود إلى طبع وإعادة طبع أعمال ابن خلدون أو إلى إعادة تحقيقها أو إلى إجراء العديد من الدراسات حولها في ضوء إدراكنا الآن حقيقة أن هذا المنجم المعرفي ما كان له أن ينفجر لولا أن المستشرقين الأوروبيين فجروه في وجوهنا؟ وهل الخلدونية ضرب من إعادة الاعتبار الشخصي لابن خلدون الذي ناله من الغمز واللمز قبل وفاته مثل الذي ناله بعد وفاته؟ وهل الخلدونية جهد أكاديمي وتوثيقي بحت نستوفي من خلاله الإلمام بكل صغيرة وكبيرة في حياة ابن خلدون؟ في تقديرنا أن الخلدونية محاولة لاستحضار القدرة على التحديق في الواقع بجرأة نقدية، وتحليلية لاترتهن لحالة الأفول الحضاري والخراب البيئي والتشرذم السياسي بل تتجاوزها لتشكل ما يشبه بيان احتجاج على الواقع الآفل وعلى أنماط التفكير الناظمة له والناتجة عنه في آن وإلّا فماذا يعني اتجاه ابن خلدون إلى الانسحاب التام من المشهد العام والإصرار على الاعتكاف لمدة أربع سنوات في قلعة ابن سلامة؟ إنّه اتجاه احتجاجي على الاستمرار في لعبة الفهم المبتذل للواقع وإعادة انتاج المعرفة الناتجة عنه إلى الحد الذي يتطلب العودة إلى «المربع الأول» ومحاكمة كل ما يتم التعامل معه على أنه مسلمات وبديهيات قارة..إنه محاولة للتخلص من الأوهام الكبيرة ومهما بدت هذه المحاولة خطيرة سواء على صعيد التاريخ أم على صعيد الأيديولوجيا أم على صعيد اللغة. بهذا المعنى الازاحي والبعيد كل البعد عن النظر إلى «المقدمة» على أنها تجل أو إلهام أو محطة في سيرة درامية عالية ينبغي التعامل مع المنهج الخلدوني بوصفه معرفة صادمة يهدف إلى بناء حالة ذهنية جديدة متحررة من الافتراضات المؤكدة ومؤهلة لتشخيص الواقع تشخيصاً ضارياً أكثر مما تهدف إلى استيفاء توثيق الواقع. لماذا يتطرق الكذب إلى الخبر بطبيعته؟ تمثل الأسباب التي ساقها ابن خلدون لتبرير قناعته بأن الكذب متطرق للخبر بالضرورة أحد أبرز ملامح منهجيته التاريخية الصادمة والتي ما زالت صالحة للتدريس في أقسام التاريخ والإعلام بوصفها معياراً موضوعياً وواقعياً يترتب على الإجابة عن مفرداته بالسلب أو الإيجاب إمكانية الحكم على مصداقية المؤرخ أو الإعلامي. الانحياز الأيدلوجي «التشيع للآراء والمذاهب» تتصدر ضرورة تحري مدى الانحياز الأيدلوجي أو التشيع للآراء والمذاهب، قائمة مفردات المعيار الخلدوني للتأكد من مدى صدقية صانع الخبر، ولا ريب في أن لهذه الصدارة ما يبررها عند ابن خلدون زمنياً وموضوعياً فهو أكثر من يعرف ضراوة تأثير هذا العامل على مصداقية المثقف العربي في عصره كما نعرف ضراوة تأثير هذا العامل على مصداقية المثقف العربي في عصرنا. انّ الأصل في متلقي الخبر أو في صانعه أن يكون «على حال الاعتدال» من حيث الموضوعية والنزاهة كي يتمكن من التحقق والتمحيص وكي يتمكن من تصديق ترويج أو تكذيب محاصرة الخبر.. ومن نافل الحديث القول بأن ابن خلدون لا يفترض بنا التجرد التام من الأيديولوجيا قدر ما يحذرنا من مدى السطوة اللامعرفية التي يمكن لهذا العامل أن يضطلع بها في خضم تعاملنا مع المقروء أو المسموع أو المكتوب، وقد يكون من الأدق القول بأنه يحذرنا من حقيقة أن النفوس (إذا خامرها تشيع لرأي أو نحلة قبلت ما يوافقها من الأخبار لأول وهلة فتقع في قبول الكذب ونقله).. ولعل أكثر ما يدعو إلى التحذير من سطوة العامل الذي بوأه ابن خلدون صدارة معياره الموضوعي هذه المعرفة المجزأة التي راحت تجتاح بعض أقطار الوطن العربي في أيامنا هذه، فصرنا نسمع لوجهة نظر «سنية» ووجهة نظر «شيعية» ووجهة نظر «كردية» ووجهة نظر «علمانية»، على الرغم من أن أصحاب هذه الوجهات في النظر يصطدمون بواقع واحد ويواجهون تحديات واحدة، لكن تشيع كل منهم «لنحلته» راح يلون هذا الواقع بلون مماثل لألوان الآخرين كما راح يلون مضمون التحديات بألوان تخالف ألوان الآخرين، إلى حد يدعو للتفجع على وحدة الآمال والأهداف التي لم تكف «148» سنة مرت على بزوغ النهضة العربية للحيلولة دون إعادتها إلى دهاليز الملل والنحل والفرق الناجية من النار، التي كانت قد عصفت بالواقع العربي في زمن ابن خلدون حتى أحالت التاريخ الواحد إلى مجموعة تواريخ يتعاقب على روايتها رواة الأمويين فرواة العباسيين فرواة الفاطميين فرواة العثمانيين، وحتى أحالت المنظومة الفكرية الواحدة إلى مجموعة تواريخ فكرية يتعاقب على روايتها المحدثون فالمعتزلة، فالأشاعرة. السلطة الثقافية للمثقفين «الثقة بالناقلين» وتأتي الثقة المطلقة ببعض صانعي الأخبار في المرتبة الثانية على قائمة المعيار الخلدوني .. فهو يدرك تمام الإدراك أن الحضور الشخصي لصانع الخبر يضطلع بدور كبير في ترويج رواية بعينها تاريخياً أو سياسياً أو ثقافياً وهو ما قد يحد كثيراً أو قليلاً من إمكانية التأكد من مدى مصداقية الرواية خاصة إذا لم يفعّل مبدأ «التعديل والتجريح» القائم على الاستقصاء الدقيق لنسبة المصداقية في السيرة الشخصية وفي الإطار المرجعي لصانع الخبر.. وما أحرانا في هذا الزمن العربي العصيب أن نأخذ بهذا المؤشر الخلدوني ونتوقف عن الانصياع للعديد من الروايات التي راح يسوغها ويروج لها بعض المثقفين العرب المعاصرين وتجد لها آذاناً صاغية استناداً إلى السلطة الثقافية التي يتمتع بها هؤلاء المثقفون. الضحالة الفكرية «الذهول عن المقاصد» ويسترعي ابن خلدون انتباهنا إلى ملمح على درجة كبيرة من الخطورة وهو ضرورة التمييز بين الحقيقة وبين الوظيفة،إذ أن كثيراً من المكتوب أو المسموع أو المرئي يطلق كي يحقق هدفاً محدداً ولا يستند بالضرورة إلى واقعة مؤكدة، ومن شأن التسرع لنقل الخبر على علاته والقطع بصحته أن يوقع الناقل في خانة الكذب. ولما كان معظم «الناقلين لا يعرف القصد مما عاين أو سمع وينقل الخبر على ما في ظنه وتخمينه فيقع في الكذب فإن من الضرورة بمكان أن نعيد النظر في العديد مما تم الذهول عن المقاصد فيه وعلى نحو يذكر بما وصفه ليوتارد بالسرديات الكبرى أو العليا المسيطرة على المجتمعات ومنها المجتمعات العربية التي مازالت تعاني من سطوة العديد من هذه السرديات الكبرى المسيطرة التي تحتاج وعياً متقدماً وقدرات تحليلية عالية لعل أبرزها تلك الصورة الوردية التي ما انفك صنّاع الأخبار ينسجونها للمجتمع العربي الإسلامي في العصور الوسطى بعيداً عن ضرورة التأشير على ماعصف بهذا المجتمع من أزمات كان يمكن تلافي الكثير منها في العصر الحديث لو أن المجتمع العربي الحديث تخلص من أوهامه عن ذاته وتوقف عن النظر إلى ذاته الحضارية على أنها ذات حضارية عصية على التأزم أسوة بكل المجتمعات الحديثة التي واجهت أماتها عبر الاعتراف أولاً بأنها مأزومة ثم بحثت عن الحلول والبدائل. تهافت مجتمع النخبة «التقرب لأصحاب المراتب» ويلامس ابن خلدون في معرض تدليله على أن الكذب متطرق إلى الخبر بطبيعته مؤشراً كان وما زال يعد أحد أبرز ملامح أزمة الصدقية في التاريخ والاعلام ويتمثل هذا المؤشر في اتسام أفراد مجتمع النخبة بالميل إلى النفاق والتزلف لأصحاب السلطان عبر الإكثار من الثناء والمديح وتزييف الواقع وترويج هذا الواقع المزيف «فتستفيض الأخبار به على غير حقيقة والنفوس مولعة بحب الثناء والناس متطلعون إلى الدنيا وأسبابها من جاه أو ثروة، وليسوا في الأكثر براغبين في الفضائل ولا متنافسين في أهلها». وتعكس هذه الملامة المبكرة مدى استيعاء ابن خلدون لحجم المسئولية التي ينبغي أن يضطلع بها أفراد مجتمع النخبة على صعيد التغيير الإيجابي والتمتع بالجرأة والشجاعة الكافية لنقد الواقع وتشخيص أزماته بدلاً من الركون إلى مداهنة السلطان وإخفاء الحقائق عنه طمعاً في الامتيازات المادية والمعنوية، ولا ريب في أن مشكل النخبة العربية، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً ما زال قائماً في الواقع العربي الراهن إلى الحد الذي بات يشكل معه هذا المجتمع عقبة كأداء تقف في طريق التجديد والتطوير والتحديث جراء افتقار أفراده إلى الوعي بطبيعة الدور التاريخي الذي ينبغي أن يضطلعوا به أسوة بأفراد مجتمعات النخبة في المجتمعات المتقدمة التي تمثل أحصنة التقدم والانجاز. الجهل بقوانين التطور الاجتماعي (الجهل بطبائع الأحوال في العمران) ويمثل هذا المؤشر بتعبير ابن خلدون المؤشر السابق (على جميع ما تقدم)، نظراً لأن كل حادث من الحوادث لابد له من طبيعة تخصه في ذاته وفيما يعرض له من أحواله).. وها هنا فنحن بإزاء وعي مبكر ومتقدم سواء على صعيد قوانين التطور الاجتماعي أو على صعيد خصوصية كل حالة من حالات التطور، حيث يتوجب أخذ هذه الخصوصية بعين الاعتبار في اطار الوعي العام بقوانين التطور الاجتماعي. لقد دحض ابن خلدون مثلاً بعض الروايات التي تتعلق بإعداد الجيوش الإسلامية مقارنة بغيرها من الجيوش في فترة الفتوح الإسلامية استناداً على ماعده منافياً لمنطق الإمكان والاستحالة إذا ما طبق تطبيقاً عقلانياً، وذلك لأن القانون «في تمييز الحق من الباطل في الأخبار بالإمكان والاستحالة أن ننظر في الاجتماع البشري الذي هو العمران ونميز ما يلحقه من الأحوال لذاته وبمقتضى طبيعته وما يكون عارضاً لايعتد به.. واذا فعلنا ذلك كان قانوناً في تمييز الحق من الباطل في الأخبار والصدق من الكذب بوجه برهاني لا مدخل للشك فيه.. فإذا سمعنا عن شيء من الأحوال الواقعة في العمران علمنا ما نحكم بقبوله مما نحكم بتزييفه وكان ذلك معياراً صحيحاً يتحرى به المؤرخون طريق الصدق والصواب فيما ينقلونه، وإذا كان المؤرخون والإعلاميون القدماء معذورين لقصورهم عن استيعاء هذا المؤشر جراء سيطرة الرؤى الخرافية والأسطورية حيث لابد لكل حركة اجتماعية من خرافة ترتبط بها بعيداً عن بذل أي جهد لرصد الظروف الموضوعية التي أدت للحراك فلا نكاد نستشعر مثلاً تأثيراً يذكر للظروف الاقتصادية أو الجغرافية أو للبنية الطبقية أو المنظومة السياسية.. أو المنظومة الفكرية فهي مزيج من الخوارق والدسائس والحظ المساعد فإن المؤرخين والاعلاميين المعاصرين مندوبون لتفعيل المعيار الخلدوني بحكم انتشار الوعي العلمي ومناهج النظر الموضوعي. لكل ذلك وجدنا ابن خلدون يقسم الحضارة بين الماء والصحراء، فحيثما وجد الماء وجدت الحضارة ووجد الاسترخاء والترف وفائض الوقت وحيث وجدت الصحراء وجدت الحرب ووجد الاشتداد والعوز والبحث الدائب عن ما يسد الرمق.. وحيثما توافر الأنصار توافر الفوز،لأن الأفكار مهما بلغت من العظمة فإنها تظل قاصرة عن التأثير في المحيط الاجتماعي إذا ظلت فردية دون (شوكة).