- د. عمر عبد العزيز .. نشأت المدرسة التأثيرية في فرنسا في خواتم القرن الثامن عشر وتباشير القرن التاسع عشر الذي شهدت فيه البشرية أكبر الانعطافات العلمية و المنجزات التقنية من خلال اكتشاف سلسلة من القوانين الموضوعية ذات الأثر الحاسم في العلوم الحديثة . فقانون الجاذبية و قانون الطفو و التحليل الضوئي و جداول العناصر لمواد الطبيعة و غيرها من الاكتشافات كان لها أثر كبير في الثورة الصناعية الأولى . عاش الفنان التأثيري الأول في خضم هذه التموجات العلمية والفكرية وتأثّر بها وحاول مجاراة مقولاتها و تجويزاتها مما جعل أوائل التأثيريين ينقلون مراسمهم إلى الهواء الطلق و يتخلّون عن التقليد التاريخي الموروث من الكلاسيكيين والرومانتيكيين ، مدشنين عهداً جديداً من الانقلاب المفاهيمي و الممارسي الذي مهّد له الفنان (سيزان) بمقولته الشهيرة : " أنا لا أرسم ما أعرف ، بل .. ما أرى " ، تلك المقولة التي أومأت إلى اكتشاف عناصر الضوء عندما كان الضوء يعبر عبر " الموشور " ليتحلل إلى ألوان الطيف السبعة ، أو كما يحدث في يوم مطير عندما يرتسم قوس قزح في السماء . من الواضح أن ( بيسارو ) كغيره من فناني الانطباع تأثروا بمثل هذا الاكتشاف ، و لعل البعض منهم قرأ كتيّب ( الفارابي ) المعنون : " رسالة الألوان " و الذي يتحدث فيه الفارابي عن الألوان المعروفة ، ويقول فيه بأن اللون الأسود ليس لوناً ! بل ظلاماً يتأتى من الضوء .. و الحاصل ، أن شفافية الأثير التي تحمل في طياتها ألوان الطيف السبعة هي ذات الشفافية التي تفضي إلى اللون الأسود . فيا له من امتشاق للخيال ، وياله من عالِم ٍ جليل، أنى ّ له أن يقول فرضية علمية مع افتقاده لأدوات العصر البرجوازي الأوروبي . على خط متصل ، تجاور ( سيزان ) مع ( فان غوغ ) و ( إيميل بيسارو) و ( غوغان ) و ( هنري لاوتريك ) و غيرهم من أساطين المدرسة التأثيرية ممن انزاحوا بلغة التشكيل إلى الأمام و حاولوا مغالبة التنين البرجوازي الذي كان يراقب نتاجات التشكيل بتجاهل و درجة عالية من الغرور حتى أن أغلبية فناني تلك المدرسة قضوا نحبهم في المصحات ، و أحضان المعشوقات ، فيما تركوا أثراً لا يمحى في تاريخ الفن الإنساني . بعد أن ازدهرت الصناعة و بدأت لعبة جديدة في الثقافة و الفنون ، التقطت البرجوازية الناهظة الآثار الفنية للانطباعيين ، و بدأت تؤسس لمربع جديد يتسع للّعبة الفنية المجيّرة على الأيديولوجيا والمصلحة التجارية المباشرة ، و لقد تعززت تلك اللعبة بعيد الحربين الكونيتين ، و أصبح لها منابر و مؤسسات و مراكز تمويل وأساليب غواية أفضت في جملتها إلى تفرعات لا عهد لها في المسمّيات ، فيما ظَلّ الأثر في كل تلك التفرعات مصحوباً على لعبة الفن الحديث .