أظهرت السياسة الفرنسية تجاه العالم العربي درجة كبيرة من الحكمة والنظر لمعطيات الجغرافيا والتاريخ، فقد حاولت السياسة الفرنسية الإمساك دوماً بذلك الخيط الرفيع الذي يوازن بين مصالح فرنسا الأطلسية وعلاقتها التاريخية الكبيرة بالمنطقة العربية، فالمعلوم أن فرنسا المتواشجة أساساً مع المهاجرين العرب من حوض البحر الأبيض المتوسط ،أنها تتمتع أيضاً بقدر كبير من التنوع الثقافي الذي تشكل المنظومة التاريخية العربية الأفريكانية حالة خاصة فيها، فالشاهد أن أعمال الشغب الشبابية التي أحرجت الرئيس شيراك خلال الأشهر الأخيرة صدرت عن أجيال فرنسية عربية أفريكانية، ولدت وترعرعت في فرنسا، وتضمّنت تلك الاحتجاجات تعبيراً صارخاً عن سياسة التمييز غير المعلنة، والتي باشرت الحكومة الفرنسية بمعالجتها بنفس القدر من الروية والحكمة، ومن المصادفات الدالة أن وزير الداخلية اليميني ، والمرشح الآن لرئاسة الجمهورية " نيكولاي ساركوزي " لعب دوراً سلبياً في تأجيج مشاعر الشباب من أبناء المهاجرين، وذلك عبر تصريحاته غير المسؤولة ، والتي مازال يعيد تكرارها ولو بلغة أكثر تورية ودهاء، وآخر تلك التصريحات المجيّرة على ساركوزي قوله بأن فرنسا لا ترفض الهجرة بإطلاقها بل تريد " اختيار مهاجريها " وتحت هذه العبارة العديد من الأسئلة المشروعة ، فإذا كان ساركوزي ومن معه سيختارون المهاجرين على أسس مهنية صرفة فإن الأمر واضح. غير أن ما يجري تحت سطح الماء قد يكون مغايراً تماماً لذلك، خاصة وأن ساركوزي لا يخفي يمينيته بل يقرنها بقوله : أنا يميني، ولكن لست محافظاً " والعبارة حمّالة أوجه، وتنطوي على قدر كبير من المخاتلة، فقد تكون يمينية ساركوزي التي يعد بها " غير محافظة بالمرة " وبالتالي فإنه سيعمل على قلب الموازين رأساً على عقب إذا ما تسنّى له الوصول إلى قصر الأليزيه. إنه يستخدم هنا كلمة " المحافظة " بايماءة مزدوجة، فهي كلمة مجيّرة ضمناً على المحافظين الجدد في الولايات المتحدة الأمريكية، ولكن معناها الأشمل مُجيّر على عدم التهور في خيارات التغيير !! . يريد أن يقول بأنه كمحافظي البيت الأبيض ، وفي نفس الوقت ليس كذلك، فكيف يمكننا فهم ذلك ؟!.