في سالف الأيام كنت كغيري من متابعي الفكر المادي الأوروبي نتمعن كثيراً في قوانين الجدل التي استقاها الفلاسفة الماديون من ظواهر الطبيعة وقوانينها الداخلية، ومن ضمن هذه القوانين ذلك القائل بأن الجديد يخرج من أحشاء القديم وليس هنالك جديد يمكنه أن يجد المشروعية إذا لم يعترف ويقر بأسبقية القديم.ومن عجائب الأمور وغرائب الدهور أن الفكر المادي الماركسي المنطلق من قوانين الجدل تمت مجافاته أثناء التطبيق، فوجدنا أن كبار الأحزاب الشيوعية سارعت إلى مغادرة جوهر الفكر الديالكتيكي، فبمجرد وصولها إلى السلطة شرعت في تدمير الماضي تدميراً منهجياً رافضة كامل النظريات والأفكار السابقة على المادية الماركسية مما أوصل الاشتراكيات المدرسية والممارسية إلى طريق مسدود ظهرت نتائجه بانهيار الاتحاد السوفيتي وما تبعه من انهيارات في أوروبا الشرقية. مثلت الصين اسثناء في هذا الباب لأنها أدركت ومنذ وقت مبكر أهمية التاريخ والخصوصية.. الأمر الذي يفسر لنا ما ذهب إليه "ماو تسي تونغ" في وقت مبكر من الستينيات وفي أوج الإستالينية المدرسية قائلاً بمائة زهرة تتفتح ومائة مدرسة فكرية تتبارى!!، في إشارة ذات مغزى إلى أهمية تعدد المنابر داخل الحزب الشيوعي الصيني. تالياً واستتباعاً لهذا النضج الفكري المبكر لم تقع الصين في مصيدة الجمود والتكلس؛ بل أبحرت في الاشتراكية واقتصاد السوق معاً.. والآن تتحرك الصين قدماً نحو تشريع التعدد، ولكن دون الإخلال بالتوازنات والتضحية بالماضي القريب والبعيد. أوروبا الجديدة تقوم على ذات الفكر من حيث إنها تبحث عن ميزان جديد لتكاملها ووحدتها.. ولقد وجدت أن هذا الميزان يكمن في الهوية الثقافية الواحدة بالرغم من تعدد اللغات والإثنيات والعقائد. هذه الفكرة الجوهرية في مفهوم الوحدة الأوروبية مشمولة بإقرار مسبق بأهمية الاستطراد على القديم لا الشطب عليه.. وبالتالي فإنها وحدة تتمسك بالموروث الإيجابي وتقر بالتنوع، وترى في تكامل المصالح سبباً لتكامل أخلاقي وروحي. إنها ذات المقولات الماركسية التي كانت تقول إن الجديد يخرج من أحشاء القديم.. وإن الحياة المادية المتوازنة هي المقدمة للمجتمع الفاضل.. وإن الفكرة تتحول إلى قوة مادية إذا ما استحوذت على أذهان الناس. ليس مهما إذاً ما لون الهرة كما قال "دينغ تسياو بنغ".. بل المهم أن تجيد الهرة اصطياد الفئران. هذا ما تفعله أوروبا الجديدة.. وهو ذات المسار الحكيم الذي جعل الصين الشعبية تحافظ على خصوصيات "هونج كونج" و"ماكاو" وتقول إن المهم أن تكون الصين الكبرى واحدة. ولا بأس من تعدد الأنظمة!! هل عرف العرب المغزى العميق للرسالتين الصينية والأوروبية؟؟[email protected]