لم يكن الشاعر الكبير عبده عثمان محمد ، واحداً من رواد القصيدة الجديدة في اليمن وحسب ، بل كان أهم روادها وإليه أولاً ، ثم إلى عدد من زملائه الذين كانوا يواصلون في الخمسينيات دراستهم في القاهرة ثانياً ، يرجع الفضل في دخول الشعر المعاصر في اليمن هذا المنعطف التجديدي الكامل ، بعد أن ظهرت بوادره من خلال التأملات التي سجلتها قصائد عدد من الشعراء المقيمين في الوطن أمثال : لطفي جعفر أمان ، ابراهيم الحضراني ، أحمد محمد الشامي ، وبمناسبة ظهور أعماله الكاملة في مجلد واحد ، يسعدني أن أعيد هنا ما كنت قد نشرته عنه في كتابي (من البيت إلى القصيدة) بعد أن رأيت أنه ما يزال يفي بالغرض ، ويقدم صورة وافية إلى حد ما عن دور هذا الشاعر الكبير ، ومكانته في الحركة الشعرية اليمنية الجديدة التي اتسعت ، وحققت مع الجيل الجديد الذي انحاز إلى الجديد نقلة نوعية منذ أن طرح النقاد العرب «المعاصرون» أحكامهم غير المعاصرة عن الشعر العربي القديم ، مكرسين بها الأحكام التقليدية عن ذلك الشعر ، ومدعمين لها أحياناً ببعض وجهات النظر المستمدة من معايير النقد الأوروبي القديم ، وفي ظل مايسمى بأدوات البحث العلمي.. منذ ذلك الحين ، ونحن نعيش بلبلة نقدية ساعدت من حيث ندري أو لا ندري على تدهور الشعر العربي ، وعلى اذكاء نار الصراع الدائرة ، من غير سبب، سوى العجز عن تصور الشعر في إطاره التاريخي ، وإدراك حركة التغيير الجوهرية التي رافقته منذ طفولته إلى أوج ما وصل إليه من نضج ، قبل الانحدار الذي سقط به بعد ظهور عصور الانحلال والتدهور ، وما حفل به تاريخه من تقدم وتراجع ، ومن صراع الأغراض والإيقاع ، والخيال والصياغة ، باعتباره أي الشعر نشاطاً إنسانياً قابلاً للتغيير والتحول ، لانصاً جامداً معزولاً عن مجال التطور والحركة ، فالشعر العربي الحقيقي لم يخضع للتقاليد الموروثة ، وهو نفسه الشاعر العنيف المتفجر الباحث عن خصائص أسلوبية وتعبيرية ، تندفع إلى التنامي والتمايز والتغاير ، وتجعل القصيدة صورة من عصرها لا من عصور سلفت ، وعندما يأتي الناقد المعاصر مسلحاً بمعارف عصره وبمعارف العصور السالفة ، ويبدأ في قراءة الشعر العربي قراءة ناقدة مستبصرة ، سوف يجد أن شعر كل قرن يتميز عن شعر القرن الذي سبقه ، إن لم يكن في الايقاع ففي الصور والمكونات الدلالية ، وإن لم يكن في المستوى الوظيفي ففي المستوى اللغوي ، وما البراهين والمفارقات التي تطرحها هذه الاسماء المعروفة أكثر من غيرها في تاريخ الشعر العربي القديم وهي : عمر بن أبي ربيعة ، ذو الرمة ، بشار بن برد ، أبو نواس ، أبو تمام ، المتنبي ، المعري؟ ولماذا كانت هذه الأسماء مفاتيح عصورها شعرياً ؟ وما نوع البكارة الفنية التي مثلتها؟ ثم ماذا تعني تلك المحاولات الجريئة التي سعت إلى كسر نظام الرتابة والتكرارية في القصيدة العربية ابتداءً من القرن الثاني الهجري ، وتمثلت في المبيتات والمسمطات والمخمسات ، وقادت من ثم إلى الموشحات ، وكادت تصل بالبنية الايقاعية إلى نظام «التفعيلية» لقد تصدع القالب الشعري منذ وقت مبكر ، وحاول شعراء كثيرون تجاوز البيتية ورتابة التقفية ، واستطاعت حركة التحديث والتوليد التي قادها المحدثون والمولدون أن تهز جمود الثبات ، ووضعت حداً للاجترار الفني والموضوعي ، وأن تقدم عطاءها التطوري سواءً من حيث الرؤية الفردية أو الجماعية ، أم من حيث الاقتراب من الطبيعة والناس. لقد وضع القالب الشعري التقليدي بجموده واستقراره المطلقين الزمان العربي في برواز شبيه بذلك البرواز الذي يضع فيه الناس اليوم صورة الميت قبل أن يعلقوها على جدران المنازل ، واستطاع هذا القالب الموحد أن يصنع بالشعر العربي ما صنعه اللباس الأزرق في الصين بالصينيين عندما كاد يخفي الملامح الخاصة والتمايز ، ذلك الذي لابد أن يكون بين شخص وآخر ، والذي لايكاد يتبينه إلا الرائي المتمهل ، وعندما وجه النقاد السلفيون الأذكياء إلى أبي تمام التهمة بأنه كسر عمود الشعر العربي ، لم يفهم الجهلاء وأنصاف العارفين من قراء الشعر معنى للتهمة ، ولم يكونوا قادرين على تصور فكرة تحطيم العمود سواء كان عمود المرزوقي القديم أم عمود المعاصرين القائم على المعمار الخارجي للقصيدة ، لقد ساعد أبو تمام حقاً على تحطيم عمود الشعر بمفهومه القديم والجديد ، وكان أبو نواس قد سبقه إلى تلك المهمة الجليلة ، وكان ما احدثه هذان الشاعران من تغيير في التركيب الشعري ، وفي تحطيم علاقات الثبات في العمود الشعري التقليدي أكبر ربما من التغيير الذي أحدثه بعض الشعراء المعاصرين في القالب أو العمود الخارجي إذا جازت التسمية فقد بدأ التغيير القديم في المضمون الكلي للقصيدة كما هو عند أبي نواس، وفي المغامرة اللغوية والخروج عن المألوف كما هو عند أبي تمام ، ولو قد تتابعت الحركة ولم تجد في طريقها من الموانع ما يسلبها حق التنامي والتطور لما احتاج شعرنا ، ولا احتاجت لغتنا كذلك إلى كل هذا الزمن لاثبات علاقتها الحميمة بالتغيير والتغير ، ولاثبات قدرتهما أيضاً على الخروج من دائرة التراكمية ، ولو حدث ذلك الخروج في وقته المناسب ، لما كان لهذا الخروج الجزئي والأخير الذي حدث في النصف الأخير من القرن العشرين ، أو في أواخر النصف الأول منه.. أقول لما كان له هذا الدوي الهائل ، ولما سماه بعض النقاد «المعاصرين» بالخروج الأكبر ، مع أنه خروج جزئي توقف في بادئ الأمر عند حدود البيتية ، وظل محافظاً على معظم عناصر العمود الشعري التقليدي. تلك في تقديري مقدمة ضرورية في التمهيد للحديث عن تجربة الشاعر عبده عثمان ، لعدة اعتبارات منها : أن عبده عثمان ليس واحداً من أهم شعراء هذه التجربة وحسب ، وإنما هو أيضاً أحد روادها المعترف له بالإجماع بهذه الريادة ، وقد اتاح له الحضور المبكر في نطاق هذه الحركة والارتباط بروادها الأوائل ، قدرة غير عادية في نقل الهم السياسي والهم اليومي إلى القصيدة الجديدة ، دون أن يفقدها جمالية التعبير وقيمة الأداء العالية ، ودون الحاق أي ضرر بجزئيات التجربة كما حدث مع كثير من زملائه الذين رافقوه تاريخياً في كتابة القصيدة الجديدة أو سبقوه في هذه المرحلة التاريخية. كان المرحوم الشاعر صلاح عبدالصبور يدعوه كلما تذكرناه ب «الزميل» وعندما سألته عن حرصه على إطلاق صفة الزمالة على الشاعر عبده عثمان كلما ورد ذكره قال : لقد عشنا معاً منذ منتصف الخمسينيات ، وهي الفترة التي تبلورت فيها القصيدة الحديثة في مصر ، وكنا مجموعة من الشعراء الشبان نعيش مناخاً شعرياً مشتركاً ، ونتطلع بكل أشواقها وخيالاتها نحو الحداثة ، وقد عرفتنا المقاهي الفقيرة وشقق السطوح ، وكان من أفراد هذه المجموعة غير عبده عثمان مثلاً : أحمد عبدالمعطي حجازي ، محمد الفيتوري ، ابراهيم شعراوي ، محمد مهران السيد ، كمال عمار ، فوزي العنتيل ، وكامل سند.. كنا نختلف كثيراً ، ونتنافس ونتناقش كثيراً ، ونشترك في الأمسيات الشعرية ، ونقرأ لبعضنا ما نكتبه قبل النشر. وكان صلاح عبدالصبور لاينسى كلما ورد ذكر عبده عثمان وما أكثر ما كان يرد في لقاءاتنا الحديث عن قصيدة عبده عثمان التي القاها في إحدى المناسبات القومية ، وهي عن مأساة «جميلة بو حريد» المناضلة الجزائرية الشهيرة ، وكان يردد بعض ابياتها بشىء من الإعجاب وهذه هي تلك القصيدة : لو أن لي نجمةً نازحة واحتجزتها البحار أو طولُ ما بيننا من قفار لو كان عندي وحيد وضاع من بين كل الصغار واجفلت أمه تسائل الأمسيات : بالله حقاً أمات ؟ لو كنتُ في منفى في قلب مقصلةٍ تموت في الحياة ما كان إطراقي الطويل .. الطويل.. ما كان في ناظري مأتم أو في شعوري عويل ماكان هذا الدمع مغرقاً أحرفي لو لم أشاهد «جميلة» بين القيود الثقيلة تلقي دروس البطولة رأيت فيها ربيعاً هازئاً في الخريف رأيت شعباً في انتصار الصباح وعندما نضع هذه القصيدة في إطارها الخمسيني ، ونقارن بينها وبين القصائد من هذا النوع الذي قيل في الحديث نفسه ، لابد أن نحكم بأنها تكاد تكون الاستثناء الشعري الوحيد ، وهي تستأهل أن يعجب بها ، ويتذكرها شاعر كبير كصلاح عبدالصبور ، الذي كان يؤمئذ في طليعة الشعراء العرب المجددين ، وكان ديوانه الأول «الناس في بلادي» يشق طريقه كذروة أولى من ذرا التجديد. وفي هذه الفترة ظهرت قصيدة «القيود» للشاعر عبده عثمان ، تجربة فنية متميزة ، وتجربة نضالية أشد تميزاً ، وهي تبدأ متوهجة متفجرة تتحدث عن نفسها وعن صاحبها ، وعن حيرتهما معاً ازاء ما كان يحدث في زمن الأئمة الجريح من مظالم ومآسٍ .. يتم ذلك كله بعيداً عن التفاصيل ، وبعيداً عن التقريرية ، وفي أبيات قليلة تجسد القصيدة محنة اليمانيين في ديارهم وخارج حدود تلك الديار ، لقد حاول اليماني أن يهرب من مأساته ، وحاول نسيانها والبحث عن مكان يخفي فيه وجهه المشرد ومأساته اللعينة ، فواجهته من الداخل استحالة النسيان ، واستحالة الاختفاء ، لأن اليماني المشحون بحب الأرض ربما أكثر من بقية البشر أجمعين ، إنه مشدود إلى الجبل ، إلى الوادي ، إلى الحقل ، وتنتهي القصيدة بصورة أجمل حين تقترب من الحديث عن أحلام اليمنيين وهي الوحدة ، تلك التي تبدأ من حضرموت من «با وزير» و«تبن» لكي تصل إلى الشمال محطمه كل القيود : أمشي ولا أعي كأنني أمام مصرعي أقول مقطعاً لكني أرثي به ضياع مقطع يا وتراً يئن بين اضلعي أخاطب الجدار والجدار لايعي ولايبوح وحدي أنا وراءه أنوح وياقلوباً كلها جروح مشاعري لايستطيع حملها أو تغلق الأبواب دونها كم مرة حاولت أن أكون كالأصم نزحت خارج الحدود فتشت في قبوٍ من الجليد لكنها قيودي يا أحرفاً كأنها الجبال مشاعري مشدودة لها لكنني أحبها ، أحبها جعلتُ من قلبي مواطناً لها زرعته بالبن والنخيل بما حواه «با وزير» أو «تبن» زرعته ، أسكت في رحابه اليمن إن اليمن الواحد الثائر مزروع في القلب ، ساكن في ضمير كل اليمنيين ، وإذا كان الشاعر قد أمضى وقتاً طويلاً واقفاً أمام الجدار يصرخ فيه لكي يتحرك ويثور ، فإن الجدار قد استجاب وصنع الثورة ، وما عليه إلا أن يثور مرة أخرى على نفسه ، وعلى أوهامه ليصنع الثورة الأخرى والوحدة الغالية. كان الاتجاه الفكري الذي يحكم التجربة الشعرية في اليمن قبل ظهور عبده عثمان حتى الجديد منها هو الاتجاه الرومانسي بطابعه الوجداني الإيجابي حيناً والهروبي أحياناً ، مع استثناءات قليلة تعكس قدراً من الرؤية الواقعية القائمة ، وبعد ظهور عبده عثمان شاعراً تحولت الرؤية الشعرية ، وبدأت بفضل قصائده ، وبفضل قدرته على توظيف الفن الشعري مساراً آخر ، لقد اقترب الشاعر من الواقع يستلهمه ويحاوره ، وكان اختياره الحاسم للشكل الفني الجديد ، لكي يستوعب من خلاله المنظور الجديد في الشعر ليست قضية اساليب أو اشكال ، فإنها لابد أن تكون بالضرورة قضية خلق متجانس ، ومن هنا نعي تلك الإشارة الذكية للشاعر والفنان أرنولد بريخت ، حينما قال: «إذا ما أردنا عملياً استيعاب العالم الجديد فينا فعلينا أن نبتكر وسائل فنية جديدة ، ونعيد صياغة الوسائل القديمة ، علينا أن ندرس اليوم وسائل كلاست وغوته وشيللر الفنية ، غير أنها لن تكفينا في التعبير عما هو جديد.. إن رفض التجريب يعني الاكتفاء بالموجود ، وهذا يعني التكلف» ، وهذا في تقديري مانفستو آخر لايخرج من المانيا ليحدد حتمية التطور في مجال الفنون والآداب ، وينبغي أن لايغيب عن اذهاننا في هذه المرحلة الخطيرة من مراحل التردد والارتداد ، وفي مرحلة الصراع الضاري بين القديم والجديد. في هذه القصيدة التي يروي فيها الشاعر قصة مصرع أحد أبطال المحاولة الجريئة لاغتيال الإمام أحمد حميد الدين ، والبطل هو الشهيد «محمد عبدالله العلفي» هذا البعد الرمزي الحاصل من استدعاء الشعر لشخصية ثائر يمني قديم هو «ذو نواس» ومحاولة جعلهما كينونة واحدة تعبر عن حالة الإحباط التي ادركت كلا من البطلين ، فقد حاول الأول رد قوات الاحتلال الحبشي ، ولما فشل آثر الموت غرقاً بدلاً من تقبل الاحتلال ، وحاول الآخر القضاء على الإمام ، ولما فشلت المهمة اطلق الرصاص على نفسه حتى لايعيش يوماً آخر في قبضة الطغيان ، وحتى لاتشهد عيناه آثار الفشل المشؤوم. وتبقى مع نهاية هذه القراءة العجلى اشارتان : الأولى إلى أن الشاعر عبده عثمان ، وهو من أوائل المغامرين والمجربين في حقل القصيدة العربية الجديدة ، لم يحاول أن يشارك في الموجه الأخيرة المتفشية في المجال الشكلي ، تلك التي حققت قدراً من التميز والخصوصية لبعض الشعراء الشبان وبعض الشعراء الرواد ، كما أنه ظل بعيداً عن الانبهار بما اصاب القصيدة في السبعينيات من أساليب الحداثة والإدهاش ، واكتفى بذلك النوع من التجديد الرصين الذي يحتفظ بسمات عروضية واضحة ، وبنبرة غنائية وايقاعية ، تجعل العلاقة بينه وبين الجمهور مباشرة وغير خاضعة للتعقيد والاضطراب . أما الإشارة الثانية والأخيرة فهي عن توقف الشاعر عبده عثمان عن كتابة القصيدة ،وهو الشاعر الذي آثر الشعر على الدراسة الاكاديمية ، والشاعر الذي انصهر في نار الالتزام الوطني وتقدم مسيرة قافلة الكوكبة القليلة من شعراء الجديد في اليمن.. هل أذهله ما يقرأ من شعر باسم الشعر فتوقف احتجاجاً ، أو شغله الحنين إلى الوطن عن الحنين إلى الشعر ؟!