عدوى التفاؤل التي أصابت أستاذ التربية الاجتماعية، وهو يزف إلينا خبر اكتشاف النفط، انتقلت إلينا.. سنصبح دولة نفطية أخيراً ! قالها وابتسامة واسعة منتشية، تحتل كامل ملامحه كان علينا أن نفرح لسبب ما، نجهله تماماً، كمايليق بطلبة على حافة الابتدائية لم نكن قادرين - بعد - على الامساك بخيط العلاقة بين هذا السائل الأسطوري الأسود، وبين رغيف الخبز والتنمية وحجم الدخل القومي، وبصراحة فإننا لانزال نفتقر إلى هذه القدرة حتى اللحظة ! - كان استاذ التربية الاجتماعية متفائلاً، وكان هذا سبباً كافياً لأن نتفاءل بدورنا، حتى وإن كان خبر اكتشاف النفط لايزيد أهمية - بالنسبة إلينا - عن خبر اكتشاف كوكب جديد في طرف المجموعة الشمسية.. وقرأت لاحقاً - قصة بعنوان «الذهب الأسود» في سلسلة كتب الناشئة والفتيان، ولاحقاً عرفت أن قرار وقف تصدير النفط الذي اتخذه الملك الطيب فيصل بن عبدالعزيز كان شريكاً بارزاً لسواعد المحاربين في صناعة نصر اكتوبر 73م، ويوماً عن يوم راح احترامي يتنامى لهذا السائل الحالك السواد، لكنه ظل احتراماً مشوباً بالحذر.. وقرأت لاحقاً ملفاً في مجلة العربي الكويتية عن «صورة العربي لدى الغرب»، إنه ليس أكثر من بدوي متشقق القدمين يسترخي على بحيرة نفط، ويستهويه الثريد والنساء والغلمان تلك هي صورته في المخيلة الشعبية في اوروبا وامريكا. لم يفلح النفط في زحزحة اسرائيل مليمترات صوب البحر، وأخفق حتى - في تجميل صورة العربي المشوهة في عيون الآخر.. وارتفعت ناطحات السحاب في قلب الصحراء، ارتفعت الأبنية والمراكز التجارية، وارتفعت الأرصدة، لكن الرؤوس العربية ظلت خفيضة، قبل وبعد اكتشاف النفط، ولم ترتفع . ولايزال الشرق الأوسط موطن الثراء والفقر معاً، ولايزال - بالتزامن - الأكثر استهلاكاً لمنتجات المعرفة، والأكثر تخلفاً.. أما مدائنه التي طمرت وجه الصحراء فهي تماماً - كمايصفها الروائي عبدالرحمن منيف «مدن الملح»، المهددة بالذوبان تحت خرطوشة مياه. وشاهدت فيلماً من انتاج «هوليود» تجري احداثه حول صبي من تكساس، يقطع الصحراء العربية بالطول والعرض، بحثاً عن حصان أسود يدعي ملكيته، ويكون عليه أن يقنع قبائل الصحراء، التي تتقاتل فيما بينها لامتلاك هذا الحصان، بصحة دعواه.. وبما أن هذه القبائل تعجز جميعها في ترويض جموحه وامتطائه، فإن صبي تكساس يخوض اختباراً ينتهي بأن يذعن فرسان الصحراء أمامه ويقرون بملكيته للحصان وجدارته به - إن هذا الحصان ليس سوى النفط الذي يسلس قياده لمن يملك سرجه المعرفي، وإلى هذا الأخير تؤول ملكيته - بالضرورة - لا إلى من يملكون حقول التراب فحسب !! ينبغي ان أضيف بأنني شاهدت هذا الفيلم في إحدى القنوات الخليجية، لتكتمل المفارقة. - أخيراً سنصبح دولة نفطية، قالها استاذ التربية الاجتماعية.. بعدها بوقت حزم حقائبه واجتاز الحدود، محشوراً في شاحنة تهريب، تاركاً تلاميذه يموتون بغيظهم، كلما استعادوا ابتسامته المتفائلة ذات نهار سحيق !تذييل إن كان النفط بلاثمن فلماذا نحيا في الظلمة ؟! وإذا كان ثميناً جداً فلماذا لانجد اللقمة ؟! «مطر»