كانت مدينة تعز قبل الثورة بعام أوعامين ليست كما هي عليه الآن فقد كانت مدينة صغيرة ولم يكن مرصوفاً من شوارعها إلا بضعة كيلو مترات كانت هي أساساً التي تربط المطار القديم بالعرضي وصالةحيث تقع قصور الإمام أحمد بالإضافة إلى دار الناصر الذي كان يقوم شامخاً داخل المدينة القديمة. كان لتعز سحر خاص فكل أو معظم دورها كانت تحاط بحدائق تغطي أشجارها جزءاً كبيراً من هذه الدور، وكانت الكهرباء موصولة ببعض دور الطبقة الأرستقراطية أيامها وبالطبع بدور الإمام أحمد وأسرته، وكذلك كانت الهواتف قد دخلت بعض بيوت الخاصة وكانت أيضاً قليلة، المهم أن المدينة كانت تبدو بدُورها وجوامعها وطرقها التي هي في نفس الوقت مجارٍ للسيول الهائلة مليئة بالأحجار الكبيرة والصغيرة مدينة صغيرة ساحرة حتى أن السيارات كانت تستخدم أساساً الشارع المسمى حالياً شارع 26 سبتمبر ولاتستطيع الدخول إلى كثير من أحياء مدينة تعز الصغيرة، ولكن ماكان يضفي على تعز سحراً خاصاً بها أن كل الأراضي المحيطة بها كانت تزرع بكل أنواع الأشجار الكبيرة والصغيرة وتمد المدينة بحاجتها من الخضروات والفواكه والحبوب ثم يقف جبل صبر جنوب المدينة بأشجاره وحدائقه التي كانت تتخذ شكل مدرجات تبدأ من أطراف المدينة جنوباً صاعدة الجبل حتى أعلاه فالحاصل أنها كانت تشكل مع حدائقها وجبل صبر خلفها لوحة ساحرة. كان الدكتور الجيلاني وأصله من الهند يكاد يكون هو الطبيب الأشهر الوحيد في تعز حيث لم يكن هناك أطباء يمنيون وإنما كان يوجد عدد قليل من الأطباء أغلبهم إيطاليون يعملون في المستشفى الأحمدي الذي كان هو المستشفى الوحيد داخل تعز واسمه بعد الثورة المستشفى الجمهوري، كان هذا الطبيب بالغ الثراء ويعيش مع زوجته ولم يرزق إلا ببنت واحدة كانت هي واحدة من أشهر فتيات الطبقة المخملية في تعز بل إنها كانت تتفوق على كل فتيات الطبقة المخملية هذه في دلالها ورفاهة حياتها وقد دخلت إلى صف فتيات الطبقة المخملية قريباً عندما قطفت آخر أوراق طفولتها ودخلت طور المراهقة وبدايات الشباب، كانت مدللة بكل معنى الكلمة وكانت أيضاً جميلة جمالاً ساحراً يزيد من طغيانه ملامحها الهندية واعتدال قامتهاورشاقة قدها وطول شعرها وجمال عينيها السوداويين الواسعتين أي أنها كانت ساحرة وكان يزيد من سحرها أنها تتمتع بخفة دم لاتضاهى وبحضور مميز واعتداد شديد بالذات وكان صوتها عالٍ عندما تتحدث لأنها تعلم أنه جميل فلم تكن تجد مايبرر أن تتحدث بصوت خافت خاصة وأن الصبا يستبد بها كالفرس غير المروضة. كانت قد فاقت كل فتيات الطبقة الراقية بفساتينها الكثيرة وسلسلة كبيرة من الذهب مجدولة على ضفيرتها الطويلة وخلخالين من الذهب أسفل ساقيها على طريقة فتيات الهند، لقد كسرت هذه الفاتنة الحسناء الصمت والرتابة اللذان كانا يخيمان على مدينة تعز وأثارت حولها ضجة وعاصفة لم تهدأ وأصبحت حديث كل الطبقات الراقية والعادية على حدٍ سواء فركود تعز لم يكن يحتاج إلا أقل الحوادث حتى يتبدد وأصبحت مدينة تعز كلها لا حديث لها إلا هي فهي بالنسبة لهم السندريلا الفاتنة ملكة أحلام الرجال والشباب ومحط أنظار واهتمام النساء والفتيات. لقد أحبت السائق الذي كان يعمل مع والدها وكان هو الآخر يتميز بخفة روح ووسامة واعتداد بالذات وعناية بمظهره وأناقة في هندامه واتفق الاثنان على الزواج مهما كلف الأمر ومهما واجهتهما من معارضة أو صعوبات. رفض الأب الطبيب هذا الأمر وكذلك زوجته وأصرا على أن هذا الأمر يجب أن ينتهي وأن تعود الابنة إلى صوابها فما كان من المراهقة إلا الفرار والإقامة في منزل حاكم تعز أيامها طالبة منه أن يزوجها ولو على خلاف رغبة والديها، مكثت لمدة طويلة في بيت الحاكم وكان عشيقها يحضر لزيارتها في بيت الحاكم فكسرت حينها المراهقة الفاتنة كل الأعراف والعادات المتبعة وكأنه كان يمتعها أن تصبح محط أنظار الجميع ومركز اهتمامهم وبطلة لقصتهم اليومية التي تضفي هي عليها أحداثاً جديدة وتفاصيل مثيرة يرويها الناس رجالاً ونساءاً صغاراً وكباراً. مكثتْ ملياً في بيت الحاكم الذي أظنه فضّل التريث علّها تعود إلى رشدها وأن يقبل والدها بالأمر الواقع، جلبت أمها ابن أختها من الهند ورأيته بنفسي حينها يرتدي بدلة أوروبية وربطة عنق وكان أميل إلى الطول وضخامة الجسد بالإضافة إلى وسامته وحُسن هندامه، أحضرته الأم معها إلى بيت الحاكم حتى تراه الفاتنة الصغيرة وتقبل به كزوج لها ولكنها دخلت وهي مرتدية الشرشف الذي غطى وجهها وسدهاومدت يدها لمصافحته وهي تغطي يدها بطرف الشرشف وأعلنت رفضها لهذا العرض على الفور. مرت الأيام صاخبة ملونة باستمرار بقصة المراهقة الفاتنة ومليئة بتفاصيلها والصغيرة مصرة على عنادها حتى دوّى في يوم من الأيام خبر كالصاعقة فقد مات الطبيب فجأة وكثرت الشائعات فمن الناس من قال: إنه مات منتحراً ومنهم من قال إنه مات بالسكتة القلبية أو ماشابه وهكذا ووري التراب وساد حزن غامض لف كل الناس فقد فقدت القصة بالنسبة براءتها ورعونتها وإثارتها ووقع الأب ضحية للطيش. فلم يتحمل وذهب إلى جوار ربه، وهكذا تحولت القصة إلى تراجيديا سوداء لم تعد تبعث على الإعجاب وإن كانت لم تفقد القدرة على الإثارة. هذا ما كان من أمر الأب، أما الصغيرة الفاتنة فلم تكن تلوي على شيء ولم يثنِ من عزيمتها موت أبيها وعندما زارهاالعاشق أعطته بعض الريالات ليتصدق بها عند قبر أبيها. وأما ما كان من أمر الأم فهو أنها ضاقت ذرعاً بتصرفات ابنتها وعنادها خاصة وقد دفع الأب حياته ثمناً لهذا العناد الذي لايرحم، لقد باعت السيدة كل ما أمكنها بيعه من عقارات وممتلكات الأب حتى لم يعد يربطها شيء بتعز ولايجبرها أي ظرف على مواصلة الإقامة فيها فسافرت إلى الهند تاركة صغيرتها الشابة لمصيرها. زوجهما الحاكم وذهبا إلى عدن حيث عاشا فيها سنوات بعيدة عن الأنظار والشائعات وخفت بريق القصة حتى واراها النسيان مثل كل شأنٍ في هذه الحياة خاصة وأن الثورة انفجرت بعدها وتلتها أحداث متسارعة أخذت اهتمام الناس في اتجاهات شتى. أرسلتني أختي بعد قيام الثورة بعدة سنوات عندما عاد الزوجان من عدن واستقرا في منزلهما في المدينة القديمة بهدية فذهبت وكلي رغبة في معرفة كيف صار حالها وإلى ماذا آلت الفاتنة الحسناء والعنود. دخلت عليها في غرفتها ووجدتها تجلس على حصيرة في أعلى الغرفة وأما بقية أرض الغرفة فعارية حتى من الحصير وكانت متكئة تمسك بيدها اليمنى حبلاً صنعته من بقايا قطع قماش ملون يبدو أنه بقايا فساتينها الكثيرة مربوطاً إلى مهد في أسفل الغرفة ينام عليه طفلٌ لها تهدهده حتى يعود إلى النوم كلما دعت الحاجة، ووجدت الأيام قد أخذت منها الكثير ولم تُبقٍِ لها إلا عدداً كبيراً من الأطفال وبقايا ملامح من جمالٍ أتلفته الأيام، ولفت نظري ان أهم ما كانت تحافظ عليه هو اعتدادها بنفسها ممتزجاً ببعض غرور أو شعور بالعزة هو آخر ماتبقى لها من أيام الصبا العنيف والفتنة الطاغية والعناد الذي لايكسر.