بلاغة قوله تعالى«واخشوني» و«اخشونِ» قال الله تعالى في سورة البقرة الآية «150» في سياق الكلام على تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة:«فلا تخشوهم واخشوني» فأبقى الياء في قوله «واخشوني».. وقال سبحانه في سورة المائدة الآية «3» في سياق الكلام على الأطعمة المحرمة:«فلا تخشوهم واخشونِ» فحذف الياء من كلمة «واخشونِ» واجتزأ عنها بالكسرة.. وفي نفس السورة الآية «44» قال تعالى في سياق الكلام على التوراة:«فلا تخشوا الناس واخشونِ» فحذف الياء من كمة «واخشون» واجتزء عنها بالكسرة أيضاً.. فما السر البلاغي لحذف الياء أو زيادة الياء؟! يقول الدكتور/فاضل صالح السامرائي في كتابه «بلاغة الكلمة في التعبير القرآني»: قد تحذف ياء المتكلم ويجتزأ عنها بالكسرة ،وذلك لايكون إلا لغرض ،فإنه قد تذكر الياء في مقام الإطالة والتفصيل ،وتحذف ويجتزأ عنها بالكسرة في مقام الإيجاز والاختصار..وقد تحذف لغرض آخر يقتضيه المقام إضافة إلى ذلك،وذلك كأن يكون المقام يقتضي إظهار النفس أكثر من مقام آخر وذلك نحو قوله تعالى في سورة البقرة«فلا تخشوهم واخشوني» بزيادة ياء المتكلم ،لأن مقام الإطالة والتفصيل في سورة البقرة أكثر بكثير من سياق الآيتين الآخريتين في سورة المائدة..فإن الكلام على تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة ،وهو يبدأ من الآية «142» بقوله تعالى «سيقول السفهاء من الناس ما ولاّهم عن قبلتهم التي كانوا عليها»ويستمر إلى الآية «150»فاقتضى ذلك الزيادة في البناء «اخشوني» في سورة البقرة دون آيتي سورة المائدة. إن آية البقرة في تحويل القبلة من بيت المقدس،وقد أثار ذلك فتنة وملاحاة وإرجافاً من المشركين واليهود ،حتى قال المشركون كما جاء في كتاب فتح القدير للشوكاني :«إن محمداً تحيّر في دينه» وبحسب ما أورده الألوسي في كتابه «روح المعاني »:وحتى ارتدَّ قسمٌ من ضعاف الإيمان..وقد ذكر القرآن هذا الأمر فقال تعالى:«سيقول السفهاء من الناس ما ولاّهم عن قبلتهم التي كانوا عليها...»إلخ الآيات. أما آية الأطعمة المحرمة في سورة المائدة فليس فيها ملاحاة ولا إرجاف ولاإثارة ،ثم هي بعد انتصار المسلمين وعزة الإسلام واكتمال الدين..وكذلك آيتا التوراة في نفس السورة ليس فيهما إثارة ولاخصومة، فاقتصى المقام في آية البقرة ذكر نفسه سبحانه والتخويف منه وإظهار نفسه لخشيته،أكثر من المقامين الآخرين في سورة المائدة. ولاشك أن التحول في القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة المشرفة فيه من الإرجاف والفتنة،ومظنة الارتداد عن الدين ماليس في الأمرين الآخرين،فاقتضى ذلك إظهار الله لنفسه بذكر ياء المتكلم فقال:«واخشوني» وأن يجتزئ بالكسرة إشارةً إلى المتكلم في المواطنين الآخرين في سورة المائدة. إن آيات «البقرة» فيها توكيدات وهي تناسب هذا الإظهار،منها قوله تعالى:«وإن كانت لكبيرةً إلاّ على الذين هدى الله» وقوله سبحانه«ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب..»وقوله عزوجل «الحق من ربك فلا تكونن من الممترين» وقوله:«وإنه للحق من ربك» وغيرها مما اقتضى إظهار ياء المتكلم في «البقرة» دون الآيتين في سورة «المائدة»...والله أعلم.