مايتبادر إلى الذهن لأول وهلة،وما يشيع لدى عامة الناس وبعض خاصتهم أن القرآن الكريم من حيث هو كتاب دين ودعوة سماوية عالمية شاملة يقف تجاه «القومية» على طرفي نقيض،وأنه يدحضها ويحذر منها ويمنع دعواها ولكن ما أبعد هذا الظن عن الحقيقة القرآنية. ما كان للقرآن وهو الذي شمل الظواهر الكونية والتاريخية والاجتماعية أن يتنكر لظاهرة تاريخية اجتماعية إنسانية كالقومية،لها جذور متأصلة في واقع البشر وتاريخهم وتكوينهم وطبيعتهم. وأعتقد أن النصوص القرآنية الواضحة والقاطعة بهذا الصدد هي التي يمكن أن تحسم الجدل حول هذا الموضوع،الذي دار حوله خلاف كبير وخطير في الحياة العربية والإسلامية ،ومازال يثير الخلافات والمشكلات ويعرقل سير هذه الأمة في طريق التطور السليم،فلنبق إذاً مع النصوص القرآنية حول هذا الموضوع ولنسر معها في مقاربتها لهذه الحقيقة الإنسانية لنتبين حقيقة الموقف الإسلامي من المسألة القومية. ينطلق القرآن بمنهجه الواقعي في النظر إلى الشئون الكونية والطبيعية والإنسانية،من حقيقة تقرير التنوع والتعدد والاختلاف في واقع البشر فيقول:«ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين» سورة الروم 22 إذاً فمن آيات الله البينات التي لابد للمسلم أن يتقبلها ويؤمن بها آية اختلاف ألسنة البشر وألوانهم واختلاف الألسنة يعني بطبيعة الحال اختلاف اللغات...وبالتالي اختلاف الثقافات والآداب والفنون والفلسفات،باعتبار اللغة هي الوعاء الحاوي لذلك كله،والمؤثر فيه تأثيراً نوعياً وعضوياً. أما اختلاف الألوان فهو تقريب لحقيقة وجود العروق والأجناس،التي يتكون منها الجنس البشري..ومن العروق والأجناس،التي يتكون منها الجنس البشري..ومن العروق والأجناس تتفرع القوميات المختلفة بألسنتها المتعددة،فكل قومية في التحليل النهائي هي جنس معين بلغةٍ معينة،وهذا ما عنته الآية بعبارة «واختلاف ألسنتكم وألوانكم»..وهذه اللمحة القرآنية تتوافق إلى حدٍ بعيدٍ مع ماقاله مفكرو القومية المحدثون من أن القومية ليست مرحلة عابرة في التاريخ ،وإنما هي ظاهرة من ظواهره الباقية،كيف لا؟وهي في مفهوم القرآن الكريم آية كآية خلق السموات والأرض ،يدعو الله البشر جميعاً إلى التأمل فيها،حيث يتبع ذكرها بقوله سبحانه « إن في ذلك لآياتٍ للعالِمِين» وهذا مايدعو للتعمق في تقديرها كغيرها من حقائق الخلق. فكيف يستطيع منكرو الحقيقة القومية من المؤمنين بالدين إغفال هذه الدعوة القرآنية الصريحة ،والإصرار على رفض القومية باعتبارها منافية للدين؟!..وأيّ دينٍ هذا الذي ينكر الحقائق البشرية الأساسية ولايتعاطى معها؟!.. إنه ليس الإسلام قطعاً..فالإسلام اعترف بالحقيقة الجنسية لدى الذكر والأنثى ،ووضع من التشريعات والأخلاق ما ينظمها ،لا ماينكرها ويرفضها كما فعلت الرهبنة المسيحية.. ولقد شجع الإسلام ظاهرة الترابط والتكافل العائلي ،فرعى الأسرة كظاهرة اجتماعية وإنسانية إيجابية،ولم يدعُ قط إلى التحلل منها كما الأفلاطونية والبوهيمية.. فإذاً على ضوء تعاطي الإسلام الإيجابي مع كل هذه الظاهرات الفردية والجماعية،لماذا يصر البعض على القول: إن الإسلام يرفض الظاهرة القومية..قال تعالى:«ياأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عندالله أتقاكم» سورة الحجرات الآية«13»