كنا كتيبة من الصحفيين يبدو الطريق إلى «ياسين» البقال بالنسبة إلينا «اتجاهاً إجبارياً» نسلكه، وبشكل شبه يومي. وياسين الذي سأتحدث عنه، رجل ودود كل ذنبه في الحياة أنه أدمن قراءة الصحف كل صباح وبسبب من ذلك ابتلاه الله بفريق صحافة «محيرفين» شكلهم كذا يقطع الرزق والخلفة كمان! وكان رعاه الله يقرضنا بلا سقف، لدرجة يصل دين الواحد منا أحياناً ضعف المرتب الشهري، مؤمنين جداً بالمثل الشهير «ماينقطع رأس من دين».. والحق أن ذلك المثل في لحظات خانقة يبدو كما لو أنه حكومة إنقاذ «ليش الكذب». وكعادة الشهور التي يسبقها أو تلحقها مناسبة كعيد الفطر وعيد الأضحى، وكذا مواسم افتتاح المدارس بالنسبة للإخوة «المعولين» فإنها تكون شهور «قحط» لكن إن مع العسر يسراً، والصبر مفتاح الفرج، كنا نردد ذلك على مسامع «ياسين» ولا أجدعها رجال وعظ. كما لم نكن ننسى التشديد على أن «من فرج عن أخيه كربة من كرب الدنيا، فرج الله عليه كربة من كرب الآخرة».. و«هات ياياسين».. وسجل مكانك في التاريخ ياقلم، أي سجل على الحساب. المهم، جرت العادة كذلك دائماً، وفي مرة ظروف الكل كانت خانقة ومضت شهور دون أن يسدد أحدنا الحساب. كنا محرجين جداً للأمانة، وكان «ياسينو الله يعينو » هو الآخر يمر بأزمة صعبة بسبب وفاة والده الكريم. ولأن مصائب قوم عند قوم فوائد، فقد وجدنا في ذلك المصاب الجلل فرصة للمجاملة وللبوح عن مشاعر التقدير، ورحنا ننشر له يومها ربع صفحة عزاء ومواساة في الصحيفة، كتبنا في رأسها «صبراً آل ياسين». ونحن في حقيقة الأمر ناشدناه بالصبر والسلوان ليس لوفاة والده فحسب، بل وصبراً على الدين الذي عندنا له! كما ذيلنا التعزية يومها بأسمائنا، على نحو،المحزونون: فلان الفلاني، وفلان العلاني، وفلان بن فلتان، وأما الأكثر حزناً فقد ذيلناه باسم واحد من أشهر المديونين في بلاط صاحبة «الجعالة». ياسينو تجمل وانبسط مننا يومها، نحن ايضاًَ شعرنا بالاسترخاء، خصوصاً بعد أن وجدناه قد علق التعزية عرض جدار بارز خلف مقعده في البقالة. ثم مضى شهر آخر، وآخر، وأحد منا لم يسدد الحساب، وعند ذاك وجدنا «ياسينو» قد أخذ قلماً وراح يضيف إلى التعزية المعلقة خلف ظهره في البقالة وبالتحديد في خانة المحزونين أضاف ما على كل واحد منا من دين، فبدت التعزية على نحو: المحزونون.. فلان الفلاني «20.000». فلان العلاني «14.300» فلان بن فلتان «11.500» وأما الأكثر حزناً فقد دون إلى جوار اسمه «25.000».. إنا لله وإنا إليه راجعون