تتمثل الوظيفة الأساسية للتقنية في تطوير قدرات الإنسان وتنمية قواه من خلال وصلها بأدوات مصطنعة. وهذا التطوير كان استجابة لشرط العلاقة الناظمة لتفاعل الكائن البشري مع الطبيعة. فالمعطى الطبيعي يستعصي عن الاستجابة التلقائية لكل رغبات الإنسان. ومن ثم فالتقنية تبدو ملازمة للوجود البشري؛ بمعنى أن الإنسان كان مضطراً إلى إبداع التقنية واستخدامها بفعل محدودية قدراته الجسمية وتعدد احتياجاته في مقابل استعصاء شروط محيطه الطبيعي. ولكن إبداع التقنية وأسلوب استخدامها، وعلاقتها بالإنسان، شهدت تطورات وانتقالات نوعية خلال التاريخ، وفي الأبحاث الدارسية لتاريخ التقنية عادة ما يتم اختزال صيرورتها وتحولاتها النوعية في الانتقال من توسل الجسم إلى توسل الأداة، فابتداع الآلة. يقول صاليرون: "الأداة هي يد ممتدة، أو يد ازدادت قوتها. ولكن الآلة هي جهاز صنعه الإنسان بيديه وأدواته، لكي يشتغل وحده، بفعل قوة خارجية". أي أن الكائن الإنساني استخدم في البداية جسمه في علاقته مع محيطه الطبيعي، ولكنه سرعان ما أدرك محدودية قدراته الجسمية، فاضطر إلى اصطناع أدوات من خلال تسنين أحجار أو خشب... ثم بعد اكتشاف النار انفتح أمامه أفق جديد في كيفية التعاطي التقني مع الوجود. وباشتغال سنن التطور ستتحول التقنية من مستوى الأداة التي يرتهن فعلها بوجود الجسم واشتغاله معها، إلى مستوى الآلة التي تتميز باستقلالها عن اليد البشرية، وقدرتها على الاشتغال الذاتي، واقتصار الإنسان على التحريك الأولي والمراقبة. أي أن الكائن البشري أصبح مع الآلة مجرد "محرك أول" بلغة أرسطو. وتشير التحاليل الناظرة في أنظمة التقنية إلى أن تطور عالم الآلة استوى منذ القرن العشرين في تجسيد "كائنات تقنية" أكثر استقلالاً عن السيطرة المباشرة للإنسان، كأجهزة "الروبوت" مثلا. وبفعل ما ترهص به اليوم صناعة الذكاء الآلي في أبحاث الكمبيوتر أصبح الوعي اليوم يشير إلى إمكان حدوث تحول نوعي، ليس فقط في أنظمة التقنية، بل أيضا في أنظمة الوجود البشري بكامله. حيث أن الكائنات التقنية المبرمجة قد تتحول غداً إلى كائنات "قادرة على التفكير والإرادة"، ومن ثم الاستقلال كلياً عن إرادة الإنسان. صحيح أن هذا الإرهاص قد يبدو اليوم نوعاً من الخيال العلمي، غير أنه كيفما كان مآل أبحاث الذكاء الصناعي، فإن الأمر الأكيد أن سيطرة التقنية على الوجود البشري، وارتهان إرادة الإنسان بها أصبح واقعاً ملحوظاً، وليس مرتهناً بهذا التحول النوعي الذي قد يحصل أو لا يحصل. فالنظر في تاريخ التقنية يكشف أن مسار تطورها غير منضبط للإرادة الفعلية للإنسان، بل تحايث الوجود التقني قوانين تطوره الذاتي. ولذا يحق للخيال العلمي أن يوغل في أفق التخييل من أجل التحذير من هذا المسار الذي انساق فيه الفعل والإبداع التقنيين. فعند ظهور الآلة، وقبل تبين آثارها السلبية، كان الاحتفاء بها كبيرًا، بل اعتبرت فاتحة عصر ذهبي. وفي هذا السياق يستحضر شول في كتابه "نظام الآلية والفلسفة" نصاً لأنتيفيلوس دوبيزانس يقول فيه: "انزعوا أيديكم من الرحى يا عمال الطاحونة. ناموا أكثر حتى ولو سمعتم صياح الديك يعلن طلوع يوم جديد، لأن ديمتر قد كلف جنيات العمل بالشغل الذي تحررت منه أيديكم. ها هي الجنيات تسرع في إدارة محور العجلة التي تطحن بدواليبها المسننة الوزن الموضوع في قعر الرحى. إننا سنذوق طعم حياة العصر الذهبي". كانت الآلة أي التجسيد المادي لفكرة التقنية - عند لحظة اكتشافها، ينظر إليها كجنية جميلة تخدم الإنسان من دون ثمن، وتحرره من إرهاق وتعب العمل، وتخضع له الطبيعة، وتمكنه من السيطرة عليها. غير أن مآل التطورات التقنية اللاحقة أخذ يكشف مقدار الثمن الذي تأخذه هذه الجنية! حيث برزت السلبيات التي كانت مستخفية من قبل، حتى أصبح الاعتقاد بأن التقنية إن كانت قد حررت الإنسان من سيطرة الطبيعة كما يظن فإنها أخضعته لسيطرتها هي. وهكذا لم يتحرر الإنسان بل استعبد من جديد. وهنا أخذ ذلك الغزل الذي كان ينشد في الآلة يستحيل إلى هجاء؛ لأن العصر الآلي لم يتبد عصراً ذهبياً بل عصراً حديدياً بكل ما في الحديد من بأس شديد.