نحن الآن بين يدي شاعر من أعلى طراز ،و لأنه أرخ زمنه بأحداثه الاجتماعية ، والسياسية ، والاقتصادية ، وعلى جودة شعر هذا الشاعر ، فقد يبدو من المغمورين ، إما لعدم اهتمام الدارسين بشعر الشعب ، أو لأمية المجتمع الذي نشأ فيه الشاعر ، أو لتلاحق الأزمات التي تنسي المجتمع أكبر المهتمين بقضاياه .. وقد كان شاعرنا «زاهر صلاح عطشان» مؤرخاً وشاعراً ، مؤرخاً لاتصال شعره بالأحداث والأطوار ، وشاعراً لوفرة شعوره وقدرة تعبيره على استيعاب ما وقع عليه حسه أو ما وقع في علمه. نشأ زاهر صلاح عطشان في منطقة كوكبان أواخر القرن التاسع عشر ، وساعدته مهنته كبناء على التنقل في كل منطقة من مناطق اليمن ، فاستوطن الروضة ، وأقام في (آنس ويريم) إلى جانب الرحلات التي يستدعيها العمل في أي مكان ، كما تدل أشعاره. وبعد شهرين في الروضة بلاد العنب بالله ياطير سلم لي على كوكبان وبعد هذا نسافر في دواخل رجب يريم وإلا بلاد آنس وإلا خبان وبهذا التنقل زادت خبرته بأحوال المناطق واختلاف عاداتها أو تقاربها. وبهذا توفر حسه الاجتماعي لأنه كان دقيق الملاحظة واسع الاهتمام .. وقد عايش هذا الشاعر المعماري فترة تمخضات عنيفة ، وأحداثا تحولية شدت انتباهه إليها ، فاشترك حساً وعملاً في صنع هذه الأحداث وتسجيلها بأمانة المؤرخ وحساسية الشاعر واهتمام الوطني الصادق .. ولعل فن البناء أعداه فن الكلمة المقلوبة إلى جانب أصالة شعرية ملأت جوانب نفسه ، فلشعره هندسة معمارية لا يشبهه فيها أي شاعر شعبي ، ذلك لأن البناء نوع من الشعر الصامت ، ولأن الأحداث هندست نفسية شاعرنا ، وأنطقت فنية الكلمة أسرار شاعريته كما يحدثنا شعره. وهذه القصيدة مجاعة زمان النفر حافلة بكل ما عرفه زاهر عطشان وتأثر به من مجاعة ، لم تقلل منها السحاب المغدقة والأرض المخضرة .. فهذه الفترة تكاد تكون ممسوحة من تاريخنا المكتوب والمروي ، لو لم يسجلها زاهر عطشان في هذا الشعر الجيد .. فقد أكتفى المؤرخ عبدالواسع الواسعي في كتابه (تاريخ اليمن) بوصف هذه الفترة بأنها سنة شديدة «عز فيها الطعام على الخلق»، متأثرا بوصف المقريزي عصر الملك العادل ، إذا فال : «وقد طمت المجاعة كل صقع ، واصطحبت معها الأرض ، نسأل الله أن يفرج الضيق». ولا قتداء الواسعي بالمقريزي كمؤرخ تقليدي لم يشر إلى أن المجاعة أدت إلى أكل الأطفال ، كما سجل عطشان. والملحوظ أن قصيدته تناولت قضايا هامة تتصل بالاجتماع والاقتصاد معاً .. فقد عرف الشاعر مدة زمنية تواصل فيها هطول الأمطار ، والشعب لايملك حبة البذر حتى ينتفع بالأرض المروية. مابش ذري ما يسووا بالجرب والبقر وبانعدام (الذري) أو البذر على لغة المعجمات تنعدم الغلة وتعشوشب الأرض ، لكن ماذا يأكل الناس ؟ لقد عبر الشاعر أدق تعبير عن انعدام الخبز في تشبيهه العضوي البياني : ما غير كعكة شعير أو (دُخن) ساع القمر وفي المقطع الثاني سجل الشاعر أهم حدث أوصلت إليه المجاعة ، وهو أكل الأطفال ، فقد أشار إلى هذا الحادث المفجع أروع إشارة : وبالعشي نفقد الجاهل أو الجاهله ما حد دري من هو القاتل أو القاتله ؟! وبعد يومين نلقى اليد أو الحافيه فمن من المؤرخين صور لنا هذه الفترة ؟ عندما كان يختفي الطفل أو الطفلة ويبحث عنهما أهلهما ولا يجدون بعد يومين إلا اليد أو جلدة القدم التي عبر عنها الشاعر بالحافية .. هذه المجاعة الطاحنة لم يهتد إليها قلم المؤرخ بالتفصيل، إنما أبدعت مشاهدها المخيفة شاعرية زاهر عطشان ، وقد تدرج الشاعر في قصيدته تدرجاً فنياً وحسياً كما لو كان يعمر داراً ، فكل كلمة وكل مقطع في المكان الملائم كأحجار البناء بالضبط ، فبعد أن طرح سبب المجاعة وهو انعدام البذرة ، رتب عليها نتيجة تتلخص في أكل الأطفال، وخوف الرجال من غوائل الطرق، حتى إنهم يذهبون جماعات ، ويرجعون جماعات ، ومن تأخر عن بيته أكلته السائلة ، ولا ينفع بعدها هذا كتاب الفقيه (يحيى) ، ولا زوجته (كاملة). بعد أن يفرغ الشاعر من فظاعة المجاعة في الريف، بلتفت إلى المدينة ويسألها عن فضلها ، وصحة دعواها هذا الفضل ، وهي تأكل البر والسمن، والناس في الريف يأكلون الأطفال ، وينحرون الحياة حتى وصل سعر الرأس (معبر عطل) أي غلاف الرصاصة الذي أفرغ منه ذخيرته : وعندنا الجوع سعر الراس معْبر عطل فأي نمط فني أدق من هذا ، لأنه رتب الأحداث ، فانعدام الذري سبب في المجاعة ، والمجاعة سبب في الخوف لأنها تؤدي إلى السطو والاستلاب، وبهذا يرتفع سعر كل شيء ، ويصبح الإنسان أرخص الأشياء ، وبالأخص في زمن انعدام الحكم وتغيب الانضباط كالفترة التي كابدها شاعرنا مع جيله الجائع المستباح ، اليست هذه الدقة في تصوير شاعرنا تعطي عن أحوال تلك الفترة علماً كثيراً ، وتاريخاً مفصلاً لا تجده في التاريخ ، ولا أشار إليه المعنيون بالتاريخ ، إلا كحدث عادي موصوف بالشدة ؟ فهذه القصيدة لزاهر عطشان هي أول وثيقة تاريخية لسنة المجاعة التي يسميها الأجداد والجدات (سنة النفر) ، ويكتفون بهذا الوصف ، لكن زاهر عطشان فصل في قصيدته كل ما حدث في سنة النفر وربما كانت سنوات ، أما متى تقع هذه الفترة أو هذه السنة ؟ فلم يشر إليها عطشان ، ولا حددها المعمرون ،، لكنها على وجه التقريب أحدى سنوات الربع الأول من القرن العشرين ، بدليل أن زاهر عطشان يؤرخ أحداث تلك الفترة باهتمام ودقة ، فقد أشار إلى صلح (دعان) الذي حدث عام 1905م وتجدد عام 1911م من نفس القرن : قالوا سبر صلح (دعان) فيه سدوا رجال وما درينا عليش تموا ، وكيف المقال ما غير ليش ما يسدوا قبل بدع القتال؟ عليش سرنا وجينا في السبال والجبال؟ لا سيرتك ما تفيدك ما يضر الجلوس ويبدو أن هذه الفترة أسوأ مامر بمجتمعنا ، وإن كان الجوع مألوفاً في كل عام ، إلا أنه لم يبلغ الغاية التي بلغها في زمن عطشان وفي صورة شعره. ونحن نقرأ شعره اليوم للاستفادة التاريخية ، وللمتعة النفسية ، وللاهتمامات الاجتماعية ، لأن شعره تاريخ فترة لا تقل عن أربعين عاماً، وصورة مجتمع احترق بالأحداث واختنق بدخانها ، فقد عرفنا في شعر عطشان شدة المجاعة في زمن الخصب ، وصورة المجاعة في زمن الجدب. ولنضرب المثل بهذا المقطع الشعري له والنابع من مرارة الواقع المعيشي : يا ليلة القدر كم سرتي وجيتي بلاش وما لقينا في (الغنم) و(الخباش) أبصرتي البيت مذبِّبْ و(الكُتنْ) في الفراش فسرتي الدور حيث (المرقحة) والرياش كان اقتلي (أحمل الرامي) لأجل القُراش والاّ سرحنا (سمارة) لعنبو من جلس ومن الأسف أن يعتبر الوصول إلى شعر عطشان من قبل الاكتشاف الأدبي ، أو من قبيل الجهد المضني في البحث والتذكر لمساعيات الصبا ، مع أنه شاعر منا ومن ثمار عصرنا ، ولعل بين اليوم وبين موته عشرين عاماً أو ثلاثين عاماً ، وربما لا يزال حياً في احدى الزوايا إذا كان من المعمرين ، إلا أن الأغلب على الظن أنه قد مات ، فلو كان حياً لتألقت أشعاره تحت أضواء عهد الثورة كما تألقت أشعار (سحلول) و(الذهباني) و(الكبسي) و(الجبري) وغيرهم من الذين تبنت نتاجهم ثورة الشعب ، وكان لهم في زمن الشعب مكانة الشاعر الرائد ، فلعل خمول عطشان يرجع إلى تبكير نبوغه ، وميلاد قصائده قبل الاهتمام بهذا اللون الرائع من الأدب الذي ينبض بحياة الملايين ويبوح بأسرارهم ويتشكل بلغتهم اليومية وأحاديثهم العادية ، ولولا خصائص فريدة في شعر زاهر صلاح عطشان لما كانت قصائده اليوم في متناول يد أحد ، ولكن سر النبوغ كسر الذهب لا يختفي وإن طال تغيبه ، وليست قصائد عطشان إلا السر الذهبي الكامن في معدن النفس اليمنية ، فبفضل قصائد عطشان عرفنا من التاريخ ما ضيع التاريخ ، وتجلينا من قضايا الشعب ما بعد عن قصائد الشعر الفصيح ، بتزمت تقاليدها وقاموسية لغتها ، وابتعاد شعرائها عن الفضائل اليومية نتيجة لتقليد السلف ، واعتبارهم أن الشعر لا بصلح إلا للموضوعات الجاهزة ، كالمدائح والرثاء وأشباههما. لكن زاهر عطشان كان يتمتع بروح معاصرة ، فوصل تفكيره إلى قضية المواطن العادي وإلى الأحوال المعيشية للشعب ، فكانت قصائده أهم فصول تاريخنا المعاصر ، وأعلى قمم شعبنا من ناحية الاهتمام الاجتماعي ، ومن ناحية الوجدان الوطني ، فهذا شاعر متكامل الحس ، يمتاز بالحس التاريخي والهموم الكبيرة ، والفنية المعمارية في بناء الدور أو في بناء القصيدة. (اليمن الجديد ،، أغسطس 1972م، بتصرف دمون)