في الفقرات القليلة التالية أحاول تقديم تعريف لمفهوم “الدراسات الثقافية” من أحد أشهر معاجم المصطلحات الأدبية، وهو تعريف لا يدعي الشمول والأحادية، لكنه على أقل تقدير قادر على فتح باب النقاش بصورة أكثر علمية حول مفهوم الدراسات الثقافية الذي أصبح مستخدماً بكثرة في النقد الحديث عربيا ًوعالمياً. ربما كان فيما ترجمته إغراء لمناقشة بعض القضايا الخاصة بتعريف الدراسات الثقافية والنقد الثقافي، والتعرض للأجهزة المفاهيمية التي يحسن بمن يتعرض للتحليل الثقافي أن يتسلح بها، لكنني سأقف في هذا السياق عند حدود ترجمة التعريف الذي أظنه محتوياً على أهم الأفكار الفلسفية المؤسسة لهذا التوجه التحليلي. الدراسات الثقافية يشير هذا المصطلح إلى مشروعٍ تحليليٍّ حديث الظهور وسريع النمو، كما أنه عابر للأنواع. يهدف هذا المشروع إلى تحليل الشروط المؤثرة في إنتاج مختلف أنماط المؤسسات والممارسات والمنتجات داخل ثقافة معينة، وكذلك يهدف إلى تحليل الشروط المؤثرة في استقبال هذه الأنماط، ودلالاتها الثقافية. في هذا السياق يعد الأدب مجرد صيغة من صيغ “الممارسات الدالة” ثقافياً. ويتمثل أحد الاهتمامات الرئيسة لهذا المشروع التحليلي في تحديد وظيفية كل من القوى الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وكذلك بنيات السلطة التي تنتج كل أشكال الظواهر الثقافية، والتي تمنح هذه الظواهر “معانيها” الاجتماعية و”حقيقتها” (2)، هذه البنيات تمنح الظواهر السابقة وضعياتها النسبية، وتمدها بقيمها النسبية كذلك، كما تمدنا بأشكال الخطاب التي من خلالها تتم مناقشة تلك الظواهر. ولقد مثل رولان بارت إحدى مقدمات الدراسات الثقافية الحديثة؛ حيث قام في كتابه أساطير Mythologies (كتب عام 1957 وترجم للإنجليزية عام 1972) بتحليل الأعراف الاجتماعية و”الشفرات” codes التي تُكسب ممارسات اجتماعية من مثل موضات النساء ومصارعة المحترفين، معناها (انظر “بارت” في باب السيميوطيقا والبنيوية). مقدمة أخرى تمثلت في المدرسة البريطانية لدراسات الماركسية الجديدة في الأدب والفن - خاصة في توجهاتها نحو العوام والطبقة العاملة - بوصفهما جزءاً متمماً للثقافة العامة. تم افتتاح هذه الحركة على يد كل من: رايموند ويليام في كتابه “الثقافة والمجتمع” (1958) “Culture and Society” ، و ريتشارد هوجارت في كتابه “استخدامات الكتابية” (1958/ وأعيدت طباعته عام 1992) “The Uses of Literacy” ولقد تم اعتماد هذه الحركة داخل المؤسسة عن طريق مركز واسع التأثير هو “مركز برمنجهام للدراسات الثقافية المعاصرة” الذي أسسه هوجارت في عام 1964. أما جذور موضة الدراسات الثقافية في الولايات المتحدة فنجدها بصورة أساسية في صيغة النقد الأدبي والثقافي الذي عرف باسم “التاريخانية الجديدة” New Historicism مع سوابقها المتمثلة في كل من: منظري ما بعد البنيوية من مثل لوي ألتوسير وميشيل فوكو، وفيما قام به كليفورد جيرتز وغيره من علماء الأنثروبولوجيا الثقافية حين عالجوا الثقافة بوصفها مجموعة من النظم الدالة. وهناك مسعى بارز في الدراسات الثقافية يتمثل في هدم الفوارق القائمة في النقد التقليدي بين “الأدب والفن الرفيعين”، وبين ما كان ينظر إليه بوصفه الأشكال الأدنى التي تنشدها جماعة أوسع من مستهلكي الأدب والفن. وهكذا تولي الدراسات الثقافية اهتماماً أقل للأعمال التي تدخل ضمن الكتابات الأدبية الرسمية، من ذلك الاهتمام الذي توليه للسرود الدارجة، وللروايات الرومانسية الأكثر مبيعاً (ونعني قصص الحب)، والصحافة، والإعلانات، وهي تولي اهتماماً كبيراً كذلك للفنون التي تحظى بقبول جماهيري كبير من مثل أفلام الكارتون، والأفلام السينمائية، والمسلسلات التليفزيونية، والموسيقى الأوسع انتشاراً على المستوى الجماهيري. وضمن منطقتي الأدب والفنون الأكثر تقليدية هناك توجه مألوف يهدف إلى تحريك الأعمال التي تم تهميشها أو استبعادها عبر الأيديولوجية الجمالية للرجل الأبيض سواء الأوروبي ام الأمريكي، نحو مركز الدراسة الثقافية؛ وخاصة ما يتصل بنتاج الكاتبات من النساء، وكتاب الأقليات العرقية، وكذلك كتاب فترة الاستعمار وما بعد الاستعمار(3). وكما في النقد التاريخاني الجديد، يوجه ممثلو الدراسات الثقافية الراديكاليون سياسياً كتاباتِهم وتدريسَهم نحو غاية صريحة؛ ألا وهي تعديل بنيات السلطة القائمة وعلاقاتها اللتين يرون أنهما مهيمنتان بسبب أفضلية نوع جنسي معين أو عرق معين أو طبقة معينة. ومن النشاطات البارزة في الدراسات الثقافية تحليل وتفسير الموضوعات والممارسات الاجتماعية خارج عالم الأدب والفنون الأخرى؛ ويتم النظر الى هذه الظواهر بوصفها تتمتع بدلالات هي نتاج للقوى والأعراف الاجتماعيين، واللتين ربما تعبران عن بنيات السلطة المهيمنة في ثقافة ما أو تتناقضان معها. ونظرياً؛ لا يوجد حد لأنواع الأشياء وأنماط السلوك التي يمكن لهذا النوع من تحليل “النصوص” الثقافية أن يطبق عليها؛ والدراسات الحالية تتعامل مع نطاق واسع يمتد ليشمل الممارسات الرياضية في شوارع المدن، أو الإيماءت الاجتماعية التي يتضمنها تدخين سيجارة. ---------------- هوامش: (1) M. H. Abrams, A Glossary of Literary Terms, Heinle& Heinle (Thomson Learning), U.S.A, 7th edition/ 1999, pp 53-54. (2) وضع الكلمتين السابقتين بين علامتي تنصيص يشير إلى أن دلالتيهما في هذا السياق نسبية وليست نهائية؛ أي إن “معنى” الظاهرة الثقافية و “حقيقتها” ليس من الأمور المتفق عليها بصورة مطلقة. (المترجم) (3) في الغالب يشير مصطلحا colonial, and post-colonial في هذا السياق إلى كل من الكتابات التي تم تهميشها في هاتين الفترتين، والتي كانت تهاجم فلسفة الاستعمار، ويشيران أيضاً إلى الكتاب الذين أنتجوا أدباً في البلاد التي كانت محتلة من قبل القوى الاستعمارية الكبرى، سواء خلال فترة الاستعمار ام ما بعدها مما له علاقة بهما.