استبشر ابناء الجنوب خيراً بدعم حكومة صنعاء لهم لمقاومة الوجود البريطاني ثورة الجنوب لم تفجرها الجبهة القومية و(لبوزة)شجاعة اسطورية خطأ نابليون وهتلر قيادة العملية صلاح الدين شرعت الى تقييم الموقف في الشطر الجنوبي من اليمن ، حيث كانت قضية الشرعية والسيادة محسومة لصالح الاستعمار البريطاني ، عبر هيمنة القوة وتزييف إرادة الشعب وفرض سياسة الامر الواقع ، فلم يكن للمشايخ والسلاطين فيما كان يسمى بالمحميات الشرقية والمحميات الغربية اكثر من السلطة التابع للسيادة البريطانية ، ولأن عدن والمحميات كانت تعج عهدئذ بالاحزاب والروابط والقوى السياسية والنقابية وابرزها حزب رابطة الجنوب العربي ، والمؤتمر العمالي ، وحزب الشعب الاشتراكي ، وحزب المؤتمر الدستوري ، وحزب الاتحاد الوطني ، والاتحاد الشعبي الديمقراطي ، اضافة الى الجمعية الحضرمية والجبهة القومية والمشتغلين وغيرهم من الجماعات السياسية في حضر موت . من هنا كان قرار العملية صلاح الدين قصر التعامل السياسي والدعم العسكري على القوى السياسية والقبلية الحادبة على الكفاح المسلح كآلية التحرير والاستقلال فحسب ، واستبعاد كل من يرفض هذا الخيار ويراهن على الحلول السلمية عبر التفاوض مع الانجليز ومصداقية وعودهم ! ولأن جمال عبد الناصر كان حريصا على تجنب الاخطاء الاستراتيجية التي وقع فيها نابليون ثم هتلر عبر فتح جبهة عسكرية ثانية مع روسيا ثم الاتحاد السوفيتي .. كذلك كانت المعادلة صعبة تكمن في شن المعركة ضد الانجليز في عدن مع تجنب الصدام المباشر مع القوات البريطانية بالتزامن مع الدعم السياسي والعسكري للثورة في شمال اليمن .. ولكن .. كيف ؟ لعل من مصادفات القدر السعيدة ، حين اتيحت لي زيارة مقر العملية صلاح الدين في تعز ، وكانت قيادتها انذاك تواصل نشاطها على صعيد التخطيط ، اذكر بينهم الضابط محمود عطيه والضابط عزت سليمان السفير فيما بعد ، بينما كانت مجموعة اخرى من الضباط مشغولة بجمع المعلومات عن اوضاع القوات البريطانية في الجنوب ، ثم مجموعة الصاعقة المكلفة بالتجهيز لعمليات التفجيرات واغتيال او اختطاف الانجليز ، وتدريب كوادر الثوار على حرب العصابات وبينهم حسن العجيزي ورجائي فارس ونبيل سعيد ، والضابط المهندس فتحي ابو طالب الذي لا يزال يذكره تاريخ العملية صلاح الدين بالفخر والكفاءة ، اذ كان صاحب الاختراع الخطير الذي دوخ الانجليز وقتئذ ، وكان قد توصل الى تفجير العبوات الناسفة عن بعد عبر جهاز اللاسلكي . مجموعة ثالثة من الضباط كانت مهمتهم تأمين العملية صلاح الدين من الاختراقات المعادية ورسم التوجهات السياسية والاعلامية والاشراف على تنفيذها ، والبحث عن الحلول الصحيحة لما قد يطرأ من المشكلات وبينهم الضابطان فخري عامر ورجائي فارس .. على انني لن انس ما حييت عنف ضابط الصاعقة حسن العجيزي وكان الاكثر كفاءة وخبرة بشئون التدريب على حرب العصابات على مستوى القوات المسلحة المصرية ، اذ كان يختبر صلابة وقوة تحمل الثوار عبر القفز من السيارات وهي على سرعة ثمانين كيلو متراً ، او يغطس رؤوسهم في براميل المياه أطول مدة ممكنة حتى يكونوا مؤهلين لتحمل التعذيب في حالة اعتقالهم بواسطة الانجليز ، وقد نجح علي ناصر بتفوق في اجتياز هذه التدريبات الشاقة، فكان مؤهلا بالتالي للالتحاق بدورة تدريبية عليا في معسكر الصاعقة بأنشاص في مصر .. وبعدها بنحو عشر سنوات كان علي ناصر رئيسا لجمهورية اليمن الديمقراطي ، وظل يزور حسن العجيزي بعد ترقيته الى رتبة اللواء وبعد اعتزاله شخصيا او عزله عن الحكم في عدن! ولعل من الامانة سبراغوار الوقائع التاريخية بدقة لكشف الحقيقة حول من بدء الثورة في جنوب اليمن ، وهنا ادلي بشهادتي المتواضعة لعلها تسهم في هذه المهمة ، ومن ثم فليس صحيحا ما بادرت اليه حركة القوميين بالادعاء لنفسها مهمة تفجير الثورة يوم 14 اكتوبر 1963 ، ومما يجزم بهذه الحقيقة ان حركة القوميين العرب رفضت في البداية فكرة النضال المسلح كأداة لتفجير الثورة ، وذلك ان اليمن جنوبا وشمالا كان يدرك ان جماهير منطقة ردفان التي عانت طويلا من الجوع والفقر والعرى والحرمان هي التي اختارت الثورة لتغيير واقعها الاليم ، وان البطل الحقيقي الذي فجر الثورة هو الشيخ راجح بن غالب لبوزه ، عندما حمل ورجاله السلاح وواجهوا الوجود البريطاني في اقدام وشجاعة اسطورية. على انه بعد قيام ثورة 26 سبتمبر 1963 في شمال اليمن استبشر ابناء الجنوب خيرا بدعم حكومة صنعاء لهم لمقاومة الوجود البريطاني .. وبالفعل ذهب الى صنعاء مجموعة من ابناء الجنوب بقيادة راجح بن غالب لبوزة لبحث تنظيم العمل الفدائي ضد الاحتلال البريطاني، وعندما علم المندوب السامي البريطاني في عدن بهذا أصدر امرا بمعاقبة كل من يتطوع او يجند او يدرب في دولة اجنبية (يقصد صنعاء) واعلن انه سوف يحكم بالسجن على كل من يقدم على هذا التصرف بالسجن 5 سنوات ويصادر سلاحه ويغرم خمسة الاف شلن ولم يكترث الشيخ راجح ورجاله للتهديد .. وبدأت حركة تمرد وعصيان واسعة في جبال ردفان ضد هذا القانون .. فصنعاء بالنسبة لعدن ليست دولة اجنبية ، هي جزء من الوطن ، وفي يوم 12 اكتوبر 1963 اصطدم راجح بن غالب بقوة بريطانية جاءت لمصادرة سلاحه فرفض تسليم السلاح وقاوم الى ان قتل ومعه عدد كبير من ابناء ردفان وانتشر هذا الخبر فتمردت القبائل في ردفان وغيرها . هكذا تواصل قتال ابناء ردفان وغيرها من القبائل مع قوات الاحتلال .. وبدأ العالم كله ينقل اخبار هذه الانتفاضة الشعبية . ثم ان الحقيقة تؤكد كذلك ان قحطان الشعبي عندما كان مستشارا لحكومة صنعاء ، وعقد مؤتمرا صحفيا اعلن فيه قيام الثورة ونسب تفجير الثورة لحركة القوميين العرب ، اعتبرت الحركة تصرفه فرديا ووصفته بالرعوعة ، ولعل ما يؤكد هذه الحقيقة ، انه في نفس هذا الوقت اجتمعت قيادة الاقليم لحركة القوميين العرب في صنعاء واتخذت قرارا بإدانة تصرف قحطان الشعبي وقررت تجميد عضويته وارسلت لجنة للتحقيق معه ومحاكمته تنظيميا وفعلا ذهبت لجنة برئاسة علي السلامي وكيل مجلس الشعب في عدن فيما بعد الى صنعاء لإجراء المحاكمة .. وما إن علم قحطان الشعبي بوصوله حتى فر الى تعز وبقي مختفيا بعد ان علم ايضا ان بريطانيا رمت بقوة كبيرة الى ردفان لسحق حركة التمرد بعد اذاعة البيان الاول عن الثورة المسلحة . مصر وانتفاضة ردفان في تلك الظروف وبعد اشتداد قتال القوات البريطانية ضد ابناء ردفان وصلت بعثة عسكرية مصرية الى صنعاء لبحث وسائل دعم ابناء ردفان ، وبالفعل قدموا للمقاتلين دعما عسكريا كبيرا . والحقيقة انه منذ اليوم الاول لانتفاضة ردفان في 14 اكتوبر 1963 كان لمصر دورها البارز في مساندة الثوار الذين فجروا الشرارة الاولي للثورة الشاملة ضد الاستعمار البريطاني .. والحقيقة انه كانت لصلات مصر المبكرة مع ابناء الجنوب اليمني الفرصة المواتية لتصعيد المقاومة ، حتى امكنهم بالفعل هز الوجود الاستعماري على امتداد ساحة الجنوب .. ومما قفز بالقضية قفزات واسعة وسريعة على المستوي العربي والدولي سياسيا واعلاميا جنبا الى جنب مع تصعيد العمل النضالي المسلح ! كان واضحا ان الاستعمار البريطاني بدأ يتحرك منذ عام 1963 – 1964 نحو قيام دويلة عميلة بالجنوب .. ومن هنا سارع بكل محاولاته السياسية لضرب الثورة المسلحة ، وبدأت حكومة المحافظين تدعو في صيف عام 1964 الى مؤتمر بلندن .. بهدف احتواء قرارات الامم المتحدة والابقاء على القاعدة البريطانية في عدن .. لكن المقاومة الشعبية التي اخذت تتعاظم وتتزايد افشلت هذا المؤتمر ، واستطاع العمل المسلح الذي تصاعد على امتداد ساحة الجنوب ان يفشل ايضا مؤتمر لندن الثاني الذي دعت اليه بريطانيا ، بعد ان تسلمت حكومة العمال الحكم في منتصف عام 1965 . وهكذا اعلنت بريطانيا صراحة ان الغرض الحقيقي من هذا المؤتمر هو الاحتفاظ بالقاعدة العسكرية والوصول الى حين تسليم السلطة الى حكومة موالية . والشاهد ان الظروف الصعبة التي كان يعيشها شعب الجنوب انذاك كانت من أهم عوامل استمرار وتوسيع مساحة المقاومة وتحول القتال التلقائي من ردفان الى عمل عسكري منظم ومتكامل ، وفتح جبهات جديدة للنضال المسلح في الضالع ، الحواشب . بالاضافة الى عدن .. ثم شملت الثورة كل الجبهات بعد ان امتد القتال الى الصبيحة بسلطنة لحج وحالمين والشعيب. اذن فثورة الجنوب لم تفجرها الجبهة القومية .. فقد كان قادتها مترددين في الانخراط بالمقاومة الشعبية .. ثم جاء دور الجبهة الشعبية لاحقا في الكفاح المسلح بعدما فشل الاحتلال في اجهاضه واحتوائه. راعي الغنم وزيرا للدفاع اذكر خلال زياراتي للعملية صلاح الدين كان من حسن حظي المبكر التعارف على علي عنتر الذي اصبح فيما بعد وزيرا للدفاع في اليمن الديمقراطي ، وكان انذاك شابا بسيطا وعفويا ، وعلمت منه انه بدأ حياته راعيا للاغنام في جنوب اليمن ، ثم عمل من بعد “فراش” في الكويت بعد ان امضى فترة عامل بناء في السعودية ، ولم تكن له فترة تدريبية على حرب العصابات قبيل انتظامه في العملية صلاح الدين ولا كانت له علاقة سياسية او تنظيمية في البداية مع حركة القوميين العرب ، لكن ما ان انضم اليها حتى تغير فكريا وسياسيا بنحو 180 درجة وسبق غيره في التنظيم ! يذكر من قبيل التوثيق التاريخي ان مصر كانت على اتصال مع قيادات الكفاح المسلح في الجنوب اليمني قبل زيارة جمال عبد الناصر لمدينة تعز ، وهم عبد الله المجعلي ، بن ليل بن راجح لبوزي ، محمد غالب لبوزي القطيبي ، محمد ناصر الداعري ، عبد القوي بن ناجي، فضل محمد حجيلي ، فضل عبد الكريم الداعري ، ثابت محمد البقلي عبد الله ، هايل خالد حجيلي، وعبر هذه القيادة تسربت اول دفعة من الاسلحة المصرية سرا الى منطقة ردفان قوامها 300 بندقية حديثة مع ذخيرتها فكان اندلاع شرارة الثورة يوم 27 يناير 1963 ، عبر كمين نصبه الثوار لدورية من الجيش البريطاني اثناء مرورها في ناحية ذي ردم التابعة لمنطقة المجلاوي بردفان ، وتكبدت خسائر جسيمة في الافراد والاسلحة ، حيث اعلن قيام جبهة تحرير اليمن الجنوبي المحتل اسوهُ بجبهة التحرير الجزائرية ، لكن ظلت المشكلة التي تواجه الثوار ثم الجبهة بعد ذلك تكمن في ان ما لديها من السلاح والذخيرة المصرية لم تعد تكفي لمواصلة النضال . في ذلك الوقت على وجه التحديد كنت وزميلي جمال حمدي الصحفي بمجلة روز اليوسف قد وقع علينا اختيار رئيس التحرير الاستاذ احسان عبد القدوس للعمل كمراسلين عسكريين معتمدين لأول مرة وكنت قد وصلت صنعاء بالفعل قبل ذلك بشهور ، حيث كانت مهمتنا متابعة وقائع الثورة التي اندلعت في اليمن ، لكن ما ان وصلنا صنعاء حتى اختار جمال حمدي الانفراد بتقصي وقائع الثورة في جنوب اليمن ! بطل الجامعة فى الملاكمة كان جمال حمدي شخصية عذبة وطموحه ومغامرة ، فهو قد شارك في النضال الوطني ضد الملكية والاستعمار البريطاني في مصر ، وسبق اعتقاله بتهمة العيب في الذات الملكية ولم يزل في الثالثة عشرة من عمره ، وهو خريج قسم صحافة دفعة 1960 ، وكان بطل الجامعات في الملاكمة في الوزن الثقيل ، ومنذ بدأ العمل في روز اليوسف عام 1959 كان طريقه سالكا لاشباع عشقه للمغامرات وخوض الصعاب ، فكان اول صحفي يقتحم القاعدة البريطانية في قبرص حيث قدم للعالم الكثير من الحقائق المصورة من داخلها ، ثم كانت خبطته الصحفية الناجحة عندما اشترك مع الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في التفجيرات التي شهدتها احدى المعسكرات الاسرائيلية ، وبعدها كان جمال حمدي يتابع معنا حرب أكتوبر 1973 وكان الصحفي الوحيد الذي تابعها ميدانيا من الجبهة السورية ، الى ذلك فقد كان يرحمه الله ممثلا في عدة افلام سينمائية ومخرجا لعدة افلام تسجيلية ، فضلا عن كونه مصورا بارعا ، اقام العديد من المعارض لإبداعاته ونال الميدالية الذهبية للتصوير من شركة “كوداك” ! على ان جمال حمدي انكشف امره للانجليز بعد دخوله عدن عبر بريطانيا ، رغم ان مراسل رويتر تنازل له عن بطاقته الصحفية الدولية وكانت بدون صورة له وهو الصحفي السوداني المرموق محمد ميرغني يرحمه الله وهو نفس الدور الذي تكرر معي واشرت اليه في كتابي “السودان واهل السودان – اسرار السياسة وخفايا المجتمع” ، وهكذا عاد جمال ادراجه الى صنعاء ، ومنها سافر الى الحديدة بصحبة المناضل سعيد الحكيمي ونجوي مكاوي قائدة المليشيات النسائية في عدن حتى يدبروا اجراءات سفرهم بحرا عبر الانضمام الى طاقم باخرة كانت متوجهة الى ميناء عدن ، لكن ربان الباخرة رفض اصطحابهم عندما عرف نواياهم خشية مصادرة الانجليز للباخرة .. حتى حين تدخل مالك الباخرة التابعة لشركة “جميل “ لإقناع ربان الباخرة باصطحابهم ، إلا انه اصر على موقفه . في صنعاء التقى جمال حمدي بالعميد عبد المنعم خليل الذي ادرك اصراره على دخول عدن مهما كلفه الامر حتى حياته ، ووجهه للسفر الى تعز والاتصال بمقر العملية صلاح الدين ، وهناك التقى بضابط المخابرات المصرية فخري عامر الذي نصحه بأن يطيل لحيته وان يحاول اتقان اللهجة اليمنية دون ان يفهم لذلك سببا ، ومضى نحو شهر وجمال حمدي يخضع لاختبارات امنية ونفسية وبدنية دون ان يفهم لذلك سببا .. وحتى كان اليوم الموعود حين افضى فخري عامر بعرض راق لجمال وابتهج له ونام ليلتها لأول مرة قرير العين كما صرح لي بعدئذ ! والحكاية ان مئات المناضلين من شباب شطر اليمن الجنوبي تحت قيادة راجح بن غالب لبوزه ابرز مشايخ قبائل ردفان ، كانوا قد زحفوا بأسلحتهم القديمة صوب الشمال وخاضوا غمار الدفاع عن الثورة السبتمبرية في مواجهة حشود القبائل الملكية والمرتزقة ، خاصة في مناطق البيضاء وحجة والمحابشة وهو نفس الدور الذي قاموا به عام 1967 في ملحمة صمود صنعاء في مواجهة جحافل الملكيين والمرتزقة الاجانب على مدى سبعين يوما متصلة ، وبعدها كان عليهم العودة الى ردفان لتفجير الثورة في الشطر الجنوبي ! فلما فشل عملاء الانجليز في اخمادها عبر الف جندي تدعمهم المدرعات والطائرات العسكرية ، خاصة وان احد عملاء الانجليز استيقظ ضميره وافشى خطة اجتياحهم المتوقعة لردفان ، والى حد نجاح الفدائيين في اسقاط طائرة بريطانية قاذفة ، عندئذ كانت الحملة الثانية اكثر قوة وشراسة ، وتصدى لها الشيخ غالب حتى استشهد ، وخلفه في القيادة ابنه “بالليل” ولم يكن قد تجاوز العشرين عاما . الجمال تحمل السلاح الى ردفان كان الثوار في سباق مع الزمن ، فاما ان تجتاحهم القوات البريطانية وجيش الاتحاد بقوة وشراسة مع ضعف تسليحهم ، واما ان يحصلوا على السلاح والذخيرة بكميات كبيرة بعد ان امتدت شرارة الثورة لتشمل مختلف ربوع ردفان وتلك على وجه التحديد كانت المهمة المطلوبة جمال حمدي ، وعليه ان ينفذها على وجه السرعة ، خاصة بعد ان اغارت الطائرات العسكرية البريطانية على منطقة ردفان وهدمت 85 قرية واحرقت جميع الزراعات . من هنا كانت عناية العملية صلاح الدين بإمداد الثوار بكل ما تخلف من سلاح وعتاد وذخيرة القوات البريطانية بعد انسحابها من قاعدتها العسكرية في قناة السويس ، ونقلها بالطائرات تباعا الى تعز ، ومنها سرا الى ردفان عن طريق البر ، فإذا قدر للانجليز ضبط هذه الشحنة الضخمة، عندئذ تستطيع القاهرة انكار صلتها بها حيث كان تسليح الجيش المصري قد تحول من الترسانة الغربية الى الترسانة الشرقية عقب صفقة الاسلحة السوفيتية الشهيرة ! كذلك كان اختيار جمال حمدي لقيادة قافلة من مائة جمل تحمل هذه الكميات الضخمة من السلاح تربو على خمسين طنا الى ردفان ، باعتباره مدنيا وصحفيا فحسب ، وليست له أدنى صلة بالقوات المسلحة المصرية. والحقيقة ان خط سير القافلة من تعز الى ردفان كان مجهولا لقيادة العملية صلاح الدين الى حد ما ، كما كانت العواقب مجهولة ايضا .. اذ كان يلزم وفقا للاعراف والتقاليد الاستئذان مسبقا من مشايخ القبائل المتعين ان تمر القافلة في المناطق التي يسيطرون عليها ، وهذا لم يحدث بالنسبة للبعض ، فيما كان بين مشايخ القبائل من تربطهم صلات العمالة بالانجليز . فلما جاءت ساعة الصفر كان ضباط العملية صلاح الدين في وداع القافلة يتقدمها جمال حمدي وهو يرتدي الزي الشعبي في جنوب اليمن .. العمامة والفوطة “الكشيدة” ، حيث انطلقت الى مهمتها يوم 4 يونيو عام 1964 صوب “ردفان” ، فكانت القافلة بحمولتها من السلاح والذخيرة تحث في السير في مجموعات متباعدة بعد غياب الشمس ، ثم تتوقف عن المسير وتهجع الى الكهوف الجبلية عند مطلع الفجر ، حتى اكتشف جمال حمدي ان رفيقه “بالليل” يجهل مسالك الطريق ، وانه مختلف عن الطريق الذي دأب الثور على سلوكه بعيدا عن قلعة “حلين” المملوكة لأمير الضالع الموالي للانجليز ! يوما شك جمال حمدي في احد الادلاء من بين الثلثمائة يمني الذين رافقوه ، وبينهم من يتولى الحراسة او العناية بالجمال ، ورفع بندقيته في وجهه واصبعه على الزناد ، وانهارت معنويات ذلك المشكوك في ولائه وجثا يقبل قدميه ، ثم افضى بما لديه من معلومات هامة ، اسفرت عن تغيير مسار الرحلة ، والافلات من الكمائن المسلحة التي اعدها عملاء الانجليز .