عادت سعاد وفي وجهها جمر الظهيرة وفي ثوبها دخان الشارع الملتهب . نزعت حذاءها الأسود ، سلخت جواربها السوداء و تأملت للحظة خيوط العرق على ساقيها . بعد الاستحمام قعدت تتناول الطعام مع والديها و أخويها الصغيرين . دلفت إلى غرفتها . أرجاء الغرفة عبقة بروائح العود المحترق جيدا . جلست على الكرسي و تأملت زوجها المستلقي على السرير غافيا بخفة متناهية ، وسمعت تنفسه الخافت . بدت غير مقتنعة بالمشهد هذه المرة . فكرت: ( لأزواج يصلون من أعمالهم بعد وصول زوجاتهم ، غالبا ) . أغمضت عينيها فاختفى زوجها من الفراش و تلاشى في ضباب هش . عاد بعد لحظة من عمله . دخل الغرفة فسمعت تكسر ملابسه وراءها . انتظرت ليعانقها من ظهرها . عانقها فاستدارت إليه لتستنشق نكهة الشمس الحارقة في ثوبه الأبيض . كل يوم يصل من عمله في حافلة الموظفين غير المكيفة ، هكذا كانت تتمناه . رجلا حقيقيا ، فيه رائحة الرجال الذين يأتون من الخارج و على أكتافهم غبار التعب وفي سحناتهم وعثاء العمل المضني . كانت تريد رجلا . قدمت له الطعام بينما كانت تنزلق ساهمة تحت الغطاء في سريرها المبخر . ناولته أول لقمة بيدها المحناة وهي تدفع وجهها أكثر في ليونة المخدة . وحين بدءا حديثهما المؤنس أثناء الطعام رشفت رطوبة دموعها في سطح الوسادة .
بعد تناول العشاء مع والديها وأخويها الصغيرين سارعت إلى غسل يديها على عجل ونظفت أسنانها جيدا بالفرشاة . منذ المساء وهي متلهفة للدور الجديد الذي حضّرته لهذه الليلة . وضعت يدها على باب الغرفة . هيئت ملامحها للمشهد الجميل وهي متلبسة بكل كيانها دورها الذي تمثله هذه الليلة . دخلت الغرفة ويدها تتحسس نحرها لإسكات تنفسها المتدافع . توقفت وسط الغرفة . زوجها لم يعد بعد . لم يكن يتأخر عن العشاء . ها ! هناك رسالة صغيرة على نضد الزينة و تحت زجاجة عطرها المحبب لديه . جمّدت المشهد لحظات لتكتب الرسالة نيابة عنه و بيده هو ، و بخطه الرجالي المجعد ، و لم تنس محاكاة نبرة تفكيره الخشنة داخل ذهنها وهي تصوغ كلمات الرسالة . كانت تنفذ المشهد بإتقان مذهل وبإحساس كأنه الحقيقة . كتبت - كتب - : ( حبيبتي سعاد ، أعتذر عن العودة للعشاء . سأعود في العاشرة .. محبتي ). انتبهت لخيالها في المرآة . سعادُ المرآة تنظر إليها متأملة . ابتسمت بخجل وتحركت نحو خزانة الملابس. اختارت ثوب النوم الوردي . رشت عطرها فوق صدر الثوب ووضعت منه على عنقها و خديها . جلست على حافة السرير تنتظر و كانت متلهفة بشدة.. شعرت بارتعاش فمها و خدر دافئ يسري في أطرافها . دخل . نهضت . سقطت الوسادة من حجرها وطأتها وهي تخطو إليه . عانقته مباشرة لتتفادى اضطرابها وتلعثمها . أحست صدره ألين من مخدتها المعطرة . رفعت يدها تتحسس وجهه برقة متناهية وعينين حالمتين . مست لحيته .. إنه رجل . إنه زوجها .. زوج حقيقي بلحية كلحى الرجال الذين تشاهدهم في الشارع و هم راجعون إلى بيوتهم ليقبلوا زوجاتهم. قبلها على خدها ، قبلة خافتة مشحونة بأحاديث كثيرة.
في الصباح كان أثر القبلة ينبض في خدها بمس لطيف . همت بلمس خدها ولكنها خجلت فقامت مسرعة لتناول الإفطار مع والديها وأخويها الصغيرين.
عادت سعاد وفي وجهها جمر الظهيرة وفي حلقها دخان الشارع الملتهب ،وفي صدرها نار لا تخبو . عقب الاستحمام جلست لتناول الطعام مع والديها وأخويها الصغيرين . دخلت الغرفة . كان مستلقيا في السرير ، مستندا إلى الوسائد يقرأ كتابا . التفت إليها ، ابتسم . ابتسمت . وفجأة أحست بالضجر ، فكرت في مشاهد أجمل وصور جديدة .
سعاد في مشغل الخياطة منهكة من يوم العمل . قِطع الخيوط الملونة عالقة بثوبها . أجفانها متعبة من تحديد عين الإبرة . أطراف أناملها محفورة وأظفارها مهشمة .
عادت سعاد وفي وجهها جمر الظهيرة ، وفي ثوبها دخان الشارع الملتهب..
عادت سعاد وفي وجهها جمر الظهيرة ، وفي .. ث و ب ها .... د خ ا ن ال ش ا .. ر ع ...