اضطررنا لقطع بضعة كيلو مترات في زيارتنا لتجمع خاص بفئة مايطلق عليهم ب«المهمشين» الذين بنيت مدينة، بل مدن عدة في مختلف مناطق محافظة تعز لإيوائهم واحتضانهم، بدلاً عن «عشش» وأكواخ كانوا يستخدمونها كمنازل.. وعلى الرغم من أن تلك «العشش» كانت في قلب المدينة وبجوار تجمعات سكنية كثيفة إلا أن السبب الرئيسي الذي دعا إلى انشاء مدن «المهمشين» في مناطق نائية من المحافظة هو ادماج هذه الفئة في المجتمع وتوفير بيئة سكنية ومعيشية بمستوى معيشة فئات المجتمع الأخرى!! الطريق الطويلة التي خضنا غمارها كانت تؤكد لنا أن تلك الفئة ومدينتهم المبنية على أطراف قصية من المحافظة. اقتربنا من تخوم مدينة «الوفاء» وهي واحدة من عدة مدن حملت أسماءً قريبة من المعنى الذي يوحيه الاسم السالف ك«النور» و «الأمل» وغيرها. مهام المتحرين ونحن على كراسي الباص الذي نقلنا إلى هناك كنا نلحظ كل ماسبق بالإضافة إلى أحاديث تدار هنا وهناك بين عدد منا، وأفراد من قاطني المدينة الذين تجمعوا حولنا فور وصولنا، وخرجت تلك الأحاديث بماسلف من مشاهد.. بعدها مباشرة - وبإعداد مسبق - توزع كل من كان على متن الحافلة من صحافيين وإعلاميين على مواقع المدينة المهمشة.. منازل ومركز صحي ومدرسة حديثة التأسيس، ومكاتب عقال المدينة بمهام صحفية كالمتحرين تماماً، وكان الهدف الرئيس هو تقصي الوضع الكائن والرابض على أرض المدينة. ذكرنا لماحوته المدينة من مركز صحي ومدرسة قد يوحي بشيء من الرفاهية لمجموعة من المهمشين لايعد عددهم كبيراً، إلا أن النتائج التي خرج بها أصحاب تلك المهام من الصحفيين المكلفين خرجوا بحصيلة تؤكد بما لايدع مجالاً للشك أن كل تلك المرافق المذكورة لاتعدو كونها مباني «بلا معان» !!.. -مبان بلا معان المرفق الصحي هناك - في مدينة الوفاء - كان خالياً تماماً سوى من قابلة واحدة، تقوم بمهمة هذا المركز الأساسية، إلى جانب متطوعتين من خارج المدينة غير موظفتين وتعملان بالأجر اليومي التعاقدي تتكفلان بالمهام الثانوية من تقديم الخدمات الأولية للاسعاف في ظل فقر حاد للامكانات البدائية والممكنة للقيام بخدمات كتلك !!، مايؤكد أن المركز لايزيد عن مبنى خال من الخدمات. المدرسة هي الأخرى لم تلق أكثر ممالاقاه المركز الصحي، فعمرها لايزيد عن عام، كما أنها تشكو الخواء من طلابها وكوادرها التربويين، أما الأول فإن أطفال المهمشين لايلتحقون بالمدارس بسبب عدم تشجيع آبائهم لهم، وتفضيلهم «طلبة الله» والبحث عن الرزق على التعليم والدراسة، وأما الثاني فإن الجهات الحكومية المختصة لم توفر بعد الكادر التربوي اللازم لقيام عملية تعليمية سليمة في ثنايا تلك المدرسة التي أمست هي الأخرى أيضاً مجرد مبنى لاخدمات فيها !!. -لا.. لقسم الشرطة ! بحديثنا مع عاقلي المدينة قاسم غالب دبوان ومحمد عبده سعيد السيقل كشفا لنا - بالإضافة إلى ماقد ذكر - عدداً من الهموم والمشاكل وعادات وتقاليد هذه الفئة المحصورة في مكانها ومدينتها تلك، وأكثر مالفت انتباهنا مماقالاه هو الرفض القاطع لساكني المدينة بوجود قسم شرطة في المدينة !!، وعن سؤالنا بالكيفية التي يتم من خلالها فض النزاعات وضبط المجرمين أجابا بأن أغلب المشاكل المتكررة في المدينة لاتزيد عن كونها مجرد شجار بين جارين سببها الاطفال وتنتقل إلى الأمهات لتصل فيمابعد إلى الكبار، ودائماً مايتم الصلح فيها، وأشار إلى أنهما يقومان بمايستطيعانه، والمشاكل الجنائية وصراعات «البلاطجة» يتم ترحيلها إلى أقرب قسم من المدينة، وعزيا رفض الأهالي وجود قسم شرطة في المدينة بسبب صغرها. - الآباء السبب فيما يتعلق بالتعليم وعدم إلحاق الأباء أبناءهم بالمدارس أشار عقال المدينة إلى أن الجهل الذي يتسم به أغلب الآباء هو السبب، وهو الذي يمنع هؤلاء من زج أبنائهم إلى المدارس وتشجيعهم.. إلى جانب الحالة المعيشية والفقر الذي يدفع بالجميع لتوفير لقمة العيش أولاً وتقديمها كأولوية على مادونها. وأفضل ما تطرقا إليه هو حثهما على تثقيف الآباء والأمهات من هذه الفئة ومحو أميتهم وتوعيتهم بأهمية تعليم أولادهم حتى يشب جيل يحمل أحلاماً مختلفة عن الأحلام القاصرة التي يحملها ذووهم، ومن هنا يتم التغيير وتبديل واقع الفئة. - عادات اجتماعية كان يمتلكنا شعور مسبق - أو بالأحرى معلومات مسبقة - بأن هذه الفئة لديها عادات وتقاليد اجتماعية في غاية الخصوصية، وفي الغالب تختلف عن المجتمع بفئاته الأخرى.. إلا أن ماحدثنا به عقال المدينة كان كمن يعيد الأمور إلى نصابها والمياه إلى مجاريها، فأكدا أن العلاقات لاتختلف عن مثيلاتها في الفئات الأخرى من المجتمع، وفي حديثهما ركزا على جانب الزواج الذي يبدو أنهما يريدان تصحيح نظرة الأخرين إليه داخل الفئة المهمشة، ووصفا عادات الزواج هي الأخرى بالطبيعية والتي لاتخرج عن اطار الحب... الاتفاق.. الزواج، مشيرين إلى أن تكاليف الزواج عندهم غير مكلفة وجد يسيرة. وفوجئنا أثناء الحديث بوجود عدد من الأسر - من غير ذات الفئة - تجاور المدينة، بل وتسكن في بعض بيوتها، وبالرغم من أنها لاتزيد على ثلاث أسر إلا أن علاقاتها بالفئة جيدة - حد قول العقال - ودائماً مايجالسون أقرانهم من المهمشين، بل ويأكلون معهم ويخالطونهم. المتسول.. مهمش نظرة تكاد تكون يقينية مفادها أن المهمش ليس سوى متسول، تشهد بذلك الجولات، وعتبات المطاعم المزدحمة في الشوارع الرئيسية، بالإضافة إلى حديث العاقلين اللذين أكدا الجهود المبذولة من قبلهم للحد من هذه الظاهرة في أوساط هذه الفئة، بالتوعية والحث على البحث عن وظائف وأعمال شريفة يقتاتون منها ويطعمون ذويهم منها. وفي ذات الموضوع كان الحديث عن توفير فرص عمل ووظائف حكومية لهذه الفئة، ومنحهم حالات ضمان اجتماعي بحكم حالتهم المعيشية الصعبة، حيث أشارا إلى وجود 150 حالة ضمان اجتماعي في أوساطهم، وبالرغم من أن اعداد ساكني المدينة قرابة ال1500ساكن إلا أن الموظفين لايزيدون عما نسبته 10% من السكان وغالبيتهم الساحقة بالأجر اليومي!!. المهمش.. سياسي وتحدثنا كذلك عن الجانب السياسي والحزبي الذي يجد له حضوراً عند هذه الفئة.. حيث يؤكد العاقل قاسم دبوان أن الشخص يضع نفسه في المكان الذي يضع نفسه فيه، لاحيث يضعه الآخرون، وأضاف: إننا نبذل جهوداً في توعية المهمشين لتفهم واقعهم وتطويره، والأمل في الجيل الجديد الذي يجب أن يلحق بالتعليم بدءًا من التعريف بمسئولية الآباء في هذا الشأن، فبالتعليم وحده يتغير الواقع، وفي هذا الصدد ندعو الدولة والجهات الرسمية لدعم المهمشين وتجاوز ظروفهم المعيشية ودعمهم بالزي المدرسي والحقائب الدراسية للالتحاق بالتعليم. وأقر دبوان بأن المهمشين منضمون في العملية السياسية في أكثر من حزب بدءًا بالحزب الحاكم، مروراً بأحزاب المعارضة، مقراً في ذات الوقت أن هذه الفئة دائماً ماتضع نفسها في وضع ويتم استهلاكها والاستفادة منها لتحقيق مصالح الآخرين. ودعا في هذا الشأن إلى أن يتم توحيد كلمة المهمشين وجهودهم وأصواتهم الانتخابية وأن ينتخبوا ممثلاً لهم في البرلمان منهم، يلبي لهم طموحاتهم . - وضع ساكن الحالة الاقتصادية والمعيشية التي يكابدها المهمشون هناك تتشابك فيها عوامل متعددة، فبحسب العاقل قاسم والعاقل السيقل فإن عدم توفر بعض الخدمات على أكمل وجه تجاه هذه الفئة، بالإضافة إلى محدودية الدعم والمعونات التي تمدنا بها المنظمات الدولية والاقليمية والجمعيات المحلية لاتساعد على تطوير الوضع وتغييره لأنها أفعال مقصورة على هدف قصير وآني ولاتتعدى إلى أمد بعيد.. الأمر الذي يجعل الوضع ساكناً كماهو!!. - المهمش .. فنان على هامش «تحرينا» أبلغنا بأن المدينة -على ضيق سكانها وقلتهم - إلا أنها تحوي مواهب وإبداعات من ذات الفئة في مجال الشعر والفن والغناء، بل ويوجد منهم المثقفون وعلماء الدين، كالشاعر أيوب محمد حسن، والفنان محمد علي نعمان، والاستاذ المثقف خالد أحمد يحيى، والواعظين أحمد قاسم حزام وخالد قايد. الفنان الشعبي محمد علي نعمان له عدد من الاصدارات الغنائية، ولديه توجيه من المحافظ السابق بتوظيفه رسمياً في مكتب الثقافة بتعز، والتي عرقلت على أبواب مكتب الخدمة «وحدة القوى العاملة».. مطالباً - عبر الجمهورية - بتثبيته وهو حالياً يحيي حفلات الأعراس والأفراح والأعياد الوطنية. - المهمش.. إنسان لافرق بالتأكيد.. فالإنسان الذي نصفه بالمهمش ليس سوى إنسان، أحياناً قد يرجع البعض سبب تلك التسمية إلى الفئة نفسها. لم أكن أنوي استخدام لفظة «مهمش.. ومهمشون..» لعلمي أنها محض تهميش وتجذير للتمييز والانعزال، ولكن فقط من باب التعريف لا أكثر.