يوجد في تعز أفران خبز ذات طابع تاريخي،لم تعد توجد في أي مكان آخر سوى في أحياء مدينة تعز القديمة،وتنتج نوعية مميزة من الخبز لايعرف سوى في المدينة،ورغم التطور الذي حدث في عمل الخبز وحضور الأفران الآلية الحديثة،إلا أن الأفران القديمة لازالت كحرف تقليدية في زمن غير تقليدي. حكاية البداية يقول الحاج عبدالغني الجنيد «96» عاماً إنه عندما جاء وهو لايزال طفلاً إلى مدينة تعز كانت هذه الأفران موجودة،ويضيف: إنها كانت تعمل قبل مجيئه بزمن طويل،فيما يشير الوالد أحمد الفران «71» عاماً وهو أحد أقدم العاملين في هذه الأفران إلى أن بدايتها ربما كانت مع اليهود الذين كانوا يسكنون في مدينة تعز قبيل هجرتهم في العام 1948م،والذين قال إنهم كانوا من أكثر من عملوا في مجال إعداد وبيع الخبز قديماً. الزجاج والملح الأفران القديمة في تعز هي عبارة عن غرفة مبنية محلية خالصة،حيث تبنى جدران الفرن من الياجور«طوب مصنوع من الطين الأحمر» والتي تمتلك قدرة على تحمل درجات الحرارة المرتفعة وتقلبات الطقس وتعيش لفترات طويلة مقارنة بغيرها من أحجار البناء،أما أرضية الفرن والتي يتم عليها شواء الخبز،مصنوعة من الحجر الحبشي «حجر أسود» معروف بقدرته على تحمل النار بشكل مباشر دون أن يتعرض للتشقق نتيجة التمدد بفعل الحرارة وتحت أرضية الحجر الأسود طبقة من الزجاج والملح وهي تعمل على اكتساب الحرارة والاحتفاظ بها لفترة طويلة،وهناك شبكة من المواصير تعمل على ضخ الديزل الذي يستخدم كوقود لإشعال الفرن إلى فوهة تقع عادة يسار غرفة الفرن تضخ منها النار إلى أرضية الفرن،فيما كان الحطب في الماضي هو وسيلة إشعال الفرن حسب الوالد أحمد الفران. وهناك نافذة مقوسة من الأعلى في واجهة غرفة الفرن مصنوعة من الياجور يقوم الخباز عبرها بإدخال عجينة الخبز منها للفرن باستخدام نوعين من المجاريف «الكريكات» مسطحة الرأس أحدها مصنوع من الخشب وهو الذي يستخدم عند إدخال العجينة للفرن،والآخر مصنوع من الحديد والذي يستخدم عند تقليب الخبز أثناء الشواء في الفرن وإخراجه. في السوق والأحياء هناك نوعان من هذه الأفران،نوع يعمل على إنضاج الخبز القادم من المنازل حيث يتم إعداد العجين وتقطيع الأقراص في البيوت وإرسالها جاهزة ليتم شواؤها في الفرن،إلى جانب الكعك والكيك أو أي مأكولات أخرى تعد في المنازل ويتطلب إدخالها في الفرن وهي أفران تتواجد في الأحياء السكنية من مدينة تعز القديمة. سوق اللقمة أما النوع الآخر فهو يعمل على إنتاج الخبز وبيعه في السوق،وهو بالمناسبة نوع خاص من الخبز تسميته الشعبية «الخمير» تتميز به مدينه تعز،وهو يعتمد على القمح كمادة أساسية لإنتاجه،فيما كان في السابق أي قبل قيام الثورة يستخدم أي نوع من الحبوب المحلية لإنتاج الخبز،وهي أفران تتواجد في سوق «اللقمة» وهو أحد الأسواق القديمة ويقع خلف السوقين الشهيرين سوق الشنيني وسوق الباز. مخاطر صحية وهناك تبعات وتأثيرات صحية كثيرة يعاني منها العاملون في هذه الأفران التقليدية،نتيجة تعرضهم لحرارة الفرن بشكل مستمر،فالخباز فيها محروم من العيش بشكل طبيعي،حيث تؤثر أبسط نسمة هواء باردة على صحة الفران،كما أنه لايستطيع شرب المياه مثل الجميع بل إن لديه قنينة خاصة يجعلها جواره في الفرن حتى تكتسب نفس درجة الحرارة التي يعيش في وسطها الخباز. رغبات محرمة وإذا ما طاوع الفران رغبته بشرب مياه اعتيادية حتى بعد ساعات من العمل فإنه يصاب بالسعال واضطرابات الجهاز التنفسي،كما أن العاملين في هذه الأفران يصابون مع الوقت بأمراض تصلب المفاصل والخمول الدائم نتيجة التعرض المستمر للحرارة الزائدة إلى جانب فقدان حاسة البصر. الصراع الأزلي منذ القدم والصراع مستمر بين كل ماهو قديم وحديث،وقد طالت أفران تعز التقليدية آثار هذا الصراع، فوجود الأفران الآلية الحديثة وماتنتجه من نوعية أخرى من خبز الطعام مثل «الروتي والرغيف» إلى جانب استخدام الناس للتنناير الغازية،أدى إلى انحسار دور الأفران القديمة،وقلة الإقبال عليها. فيما يقول الأخ حسن الصوفي «42» وهو أحد أصحاب الأفران إن ارتفاع تكاليف المعيشة جعل الناس أقل تعاملاً مع هذه الأفران،بالإضافة إلى أن الشباب الآن أصبحوا يخجلون من حمل الخبز من البيت إلى الفرن،ولايقوم بذلك إلا العجائز أو الأطفال، وحول الصعوبات التي تواجه عمل هذه الأفران قال حسن إن غياب مادة الديزل ضاعف الأعباء فكل مايمكن أن يكسبه من عمل ينفقه بحثاً عن الديزل في وقت الأزمات إضافة إلى أن مايجنيه من وقوفه لست ساعات متواصلة أمام النار لم يعد يجدي في مواجهة تكاليف المعيشة. تاريخ مهدد تحتاج هذه الأفران إلى الرعاية والتشجيع نظرا لما تمثله من قيمة تاريخية وهوية لتجربة الإنسان اليمني. والشعوب مهما بلغت من رقي وتحضر تحافظ على خصوصيتها وتجاربها التي تميزها عن بقية الشعوب،وأهمية مثل هذه الأفران ذات الطابع التاريخي لاتكمن في قيمتها الاقتصادية بل في قيمتها المعنوية والتي تعني الكثير إذا وجد من يقدر أهميتها.