صورة رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون وهو يشرح مترئساً اجتماعاً حزبياً كيفية صناعته الخبز منزلياً بدت مدهشة وغريبة، فقد نحى الرجل كل قضايا الامبراطورية التي غربت عنها الشمس وانهمك في شرحه كيف يكون خبازاً في المساء ويصنع الخبز طازجاً في منزله، بعد عمله رئيساً للوزراء في الصباح. فهو يستخدم الطحين المنتج من المقاطعة التي يعيش فيها، وماكينة خاصة تخلط المكونات وتقطع آلياً الخبز إلى أرغفة، ليستيقظ في الصباح ليجد رائحة الخبز الطازج تعبق في المنزل. كاميرون لا يأنف أن يكون خبازاً، ولم يجد في انضاج الخبز لأبنائه مضيعة للوقت، فلا يتكبد عناء شرائه من مخابز، لأن العملية التي يقوم بها لا تستغرق منه إلا أقل من دقيقة لتقوم هذه الماكينة التي لا نعرف عنها شيئاً، ولم تصلنا تقنيتها بعد، بالقيام ببقية المهمة. في الريف المصري القديم لم يكن الفلاح يشتري خبزه من الأفران، ولا البيض من السوبر ماركت، ويستحيل أن يأكل الدجاج مجمداً، ولا يشرب الحليب المعبأ في البلاستيك، فكانت الفلاحة المصرية تربي الدجاج والبط والأوز والحمام والخراف، وتستخدم في كل ذلك أدوات أبسط من البساطة لم يتغير بعضها منذ القرون الوسطى. تريَّفت المدينة في مصر بهجرة الفلاحين إليها، وتحضر الريف باستمرائه الاعتماد على الجاهز: الخبز والحليب والبيض والدجاج المجمد، فلا صارت المدينة بمثل ما كانت عليه، ولا أصبح الريف عصامياً في معيشته مثلما كان. اللافت أن ديفيد براون يتحدث عن صناعته للخبز في منزله بغبطة، ومن دون تحرج، أما الفلاح المصري الآن فأصبح يزهو أن زوجته الفلاحة لم تعد تعجن عجين الخبز، وأنه لم يعد يصنع احتياجاته بنفسه، وأنه يشتريها جاهزة، لأنه يكره ما كان عليه. حينما فكرنا في تطوير الريف المصري أو العربي داهمناه بالمنتج الحضاري الجاهز، ظناً منا أن ذلك هو التطوير، بينما يفترض أن يكون التطوير على غير ما فعلناه. فلم نفكر مثلاً أن يكون وقود الفرن الفلاحي في شمال الدلتا من قوالح الذرة أو أغصان النباتات بعد حصاد ثمارها وقش الأرز، من دون أن يترتب على إحراقها دخاناً داكناً يلوث البيئة. ولم نعلم الفلاح المصري كيف يربي الدواجن بأنواعها بإنتاج واسع يكفيه ويفيض عنه. كما أننا لم نقل له إن برميل القمح أو البرتقال أو أي نوع من أنواع الفاكهة والحبوب أغلى سعراً من برميل النفط، وأن بوسعه أن يحقق ثراءً كبيراً لو طوَّر من حياته دون الحاجة إلى أن يهجر الحقول إلى المصانع أو يهاجر من الريف إلى البندر، ويسبب لنفسه أمراضاً اجتماعية ونفسية جراء الانتقال من كنف ثقافة البساطة والبراح إلى ثقافة التعقيد والازدحام، فقد انتحر الريف بحلم الانتقال إلى المدينة، ومرضت المدينة بتدفق الفلاحين إليها. أن يصنع ديفيد براون خبزه بنفسه، فيما يشتري الفلاح المصري والعربي الخبز جاهزاً فهذا يعكس فرقاً في طرائق التفكير والكيفية التي توظف فيها التكنولوجيا لتطوير الحياة.