حينما أسترجع تفاصيل المعركة الشهيرة التي دارت في منتصف القرن الماضي بين ( جان بول سارتر ) ومعارضيه حول أفكاره عن ( الأدب الملتزم ) أجد أنها تمتلك من الأسباب القوية ما يجعلها مهيأة للتفاعل الجمالي وإثارة الجدل مع معطيات اللحظة الحاضرة وذلك فيما يتعلق بقضايا ( الشعر ) و ( النثر ) بإخلاص بديهي للطبيعة الجوهرية للموروث الإنساني المؤثر والمحرض بالضرورة على تشكيل السياقات الزمنية المتعاقبة لتجربة الوجود في العالم . كان (سارتر) يرى أن (ميدان المعاني إنما هو النثر ؛ فالشعر يعدّ من باب الرسم والنحت والموسيقى . فالشعراء قوم يترفعون باللغة عن أن تكون نفعية . وحيث إن البحث عن الحقيقة لا يتم إلا بواسطة اللغة واستخدامها أداة ، فليس لنا إذن أن نتصور أن هدف الشعراء هو استطلاع الحقائق أو عرضها وهم كذلك لا يفكرون كذلك في الدلالة على العالم وما فيه وبالتالي لا يرمون إلى تسمية المعاني بالألفاظ لأن التسمية تتطلب تضحية تامة بالاسم في سبيل المسمى ) “ 1 “ . قد يبدو من هذه التفرقة بين (النثر) و ( الشعر) التي صاغها (سارتر) أنها راجعة بالأساس لرؤيتة (الحقيقة) التي يتم البحث عنها والتي كانت عنده مرتبطة بالصلة التاريخية التي من المفترض أنها تجمع بين الكاتب وبين الآخرين الذين يخوضون معه غمار عصر واحد والتي تعتمد على الثقة المتبادلة في اعتداد الفرد بحرية غيره من طبقته أو وطنه ثم الإنسانية بشكل عام وهذا ما كان يخالف طريقة عمل (الشعر) الذي كان (سارتر) يرى أنه يخلق من الإنسان أسطورة في الوقت الذي يسعى فيه (النثر) لرسم صورته بالكشف عن جوانب الحياة والواقع. إذن فالمسألة تتعلق بشكل مباشر بفكرة الإخلاص لهموم اللحظة الإنسانية في مظهرها الإجتماعي الذي يقود بالضرورة للإخلاص للهم الإنساني في مظهره العام وهذا ما كان يرد به (سارتر) على معارضيه الذين كانوا يتحدثون عن مخاطر التعمق المباشر في الوعي العصري الذي يهدد الأدب بجعله موقوتا ومحددا . ويتابع (سارتر) طرح أفكاره قائلا : (إن الشاعر يخسر بوصفه إنسانا ويكسب بوصفه شاعرا . وهذا هو سر ضياعه وسر اللعنة التي يحمل دائما طابعها والتي يعزوها دائما إلى تدخل ظروف خارجة ، في حين هي اختياره المحض ، فليست نتيجة لشعره ، ولكنها أصله ومنبعه . فهو على ثقة بالإخفاق التام لسعي الإنسان . وهو يرتب أموره ليخفق في حياته الخاصة كي يتخذ من إخفاقه الخاص بوصفه فردا شاهدا على الإخفاق الإنساني بعامة . والشاعر يجادل أيضا شأنه في ذلك شأن الناثر ، ولكن الجدال في النثر يتم باسم نجاح أكبر ، في حين أنه في الشعر يتم باسم إخفاق مستور وراء كل نصر ) “ 2 “. على أنني أيضا لا يمكنني الاطمئنان بشكل مطلق لتصور أن هذه التفرقة بين (الشعر) و (النثر) كما طرحها (سارتر) كان مرجعها الوحيد هي رؤيته أو مفهومه عن (الحقيقة) فحسب بل أرى أن هذه التفرقة كانت بمثابة صدى نقدي لمنجز إبداعي ينتمي تطبيقيا لطبيعة هذه الأفكار كما طرحها (سارتر) خاصة تلك النصوص الأدبية والأطروحات الجمالية التي اعتمدت على التفاعلات المباشرة والمتعددة مع المعطيات التاريخية والظواهر المختلفة التي أفرزها المناخ الثقافي المرتبط بهذه المعطيات والتي لم تكن مشروطة بمعاصرة (سارتر) لها.
هل يمكننا بطريقة ما التعامل مع معركة ( سارتر ) ومعارضيه هذه من خلال انتمائها لما يمكن أن نطلق عليه ( ذهنية التنظير ) ؟.. ما الذي يمكن أن يعنيه ذلك؟! لا تعتبر ( ذهنية التنظير ) ممارسة فكرية بقدر ما تعتبر سلوكا إنسانيا غريزيا يسعى طول مراحل التاريخ المتعاقبة إلى تنظيم العلاقة بين الفن وبين الوعي الجمعي باعتبارهما الطرفين التقليديين لعملية الإبداع ( الفنان والمتلقي ) وذلك كسعي بديهي للتوافق جماليا مع آليات الظرف الحضاري ولو عن طريق القطيعة . تفترض المحاولات الأزلية والخالدة لتنظيم هذه العلاقة بين الفنان والمتلقي السعي المستمر والحتمي لتشكيل سمات ومبادئ وخصائص وعناصر تحديدية تعمل طوال الوقت على طرح قرارات تأويلية وحلول إرشادية لرسم خريطة مسبقة للتلقي تنسجم مع المعرفي الجاهز للمكلف قدريا بتنظيم هذه العلاقة امتثالا لمؤثرات الموروث وللطبيعة الإنسانية الملزمة بتمرير الضرورة المطلقة لاكتشاف قواعد أصيلة تحافظ على شرعية العلاقة بين الفرد والعالم ولها من المرونة ما يجعلها متسقة مع جميع المتغيرات التي لابد أن تمتلك مبرراتها لدى أبناء التاريخ أنفسهم . على أن ( القطيعة ) أيضا تنتمي لطبيعة هذا ( السلوك التنظيمي ) باعتبار أنها أي القطيعة قرار واضح ومعلن له من الحيثيات ما يجب جعله مبرراً؛ أي أنه كانت هناك من الأسباب ما يستوجب الحكم بهذه القطيعة التي تفترض غياب الحلول الممكنة بين ( الفنان والمتلقي ) أي بين الإبداع كحالة اغترابية عن السياق التاريخي وبين الوعي الجمعي المرتبط إنسانيا بهذا السياق . إذن فيمكنني التعامل مع الركام الهائل من المصطلحات التي تمت تربيتها بعناية وإتقان على مدار التاريخ الإبداعي مثل : ( الأجناس الأدبية ) و ( الخصائص النوعية ) و( المدارس الفنية ) و ( المذاهب النقدية) ... إلخ على أنها النتاج العادي لما هو أكثر عادية وهو السلوك الغريزي والحتمي لإقامة علاقة أي علاقة بين الفن والتلقي تبعا للمتغيرات الحضارية التي تصدرها حركة التاريخ والتي يسعى طوال الوقت لتنظيمها كنوع من المصالحة مع الحياة والموت حتى لو اتخذت الشكل ( التبشيري ) يسعى لتنظيمها الأكاديميون والمفكرون والنقاد و الفلاسفة وعلماء النفس ... إلخ حتى المبدعين أنفسهم : ( النثر ليس فقط نوعا من الخطاب المختلف عن الشعر ؛ بل هو أحد أبعاد حقيقة الواقع ، إنه بعدها اليومي ، المحسوس ، الآني ، وهو العنصر المقابل للأسطورة . هذا يرجع إلى القناعة الأكثر عمقا لدى كل روائي : ليس هناك أكثر تنكرا وتلبيسا من نثر الحياة ؛ كل إنسان يسعى بشكل دائمي لتحويل حياته إلى أسطورة بصيغة أخرى يسعى لتحويل حياته إلى شعر ، للفها بالشعر ( حتى لو كان شعرا رديئا ) . إذا كانت الرواية فنا وليست فقط “ جنسا أدبياً ، فالسبب يعود إلى أن مهمتها الأنطولوجية تكمن في اكتشافها للنثر وهذه المهمة لا يمكن أن يؤديها أي فن آخر عدا الرواية بشكل كلي ) “ 3 “. إذن فالانتصار إلى أية صيغة من (الأشكال والمبادئ) في الفن والنقد هو سلوك بشري طبيعي في متناول أي شخص أن يمارسه بالاستجابة لما تمليه عليه خبرته وتجاربه المعرفية والشعورية وطبيعته المتشكلة بفعل موروثه الإدراكي وعلاقته بالآخر في ظل المعطيات المكونة لحالته كموجود في حيز ما من الزمن وينبغي بأية طريقة التوصل لصفقة رابحة مع هذا الحيز الزمني عن طريق خطط ووسائل ضرورية متراكمة ومستمرة لاكتساب التحقق كإنسان فاعل بقدرته على استيعاب وتجاوز الطبيعة الناقصة للعالم . من الطبيعي إذن في هذه الحالة أن نمتلك تفسيرا ما حول لماذا تبدو لنا النظريات الأدبية في كثير من الأحيان كخادمة لأيدولوجيات سياسية أو دينية أو فلسفية مثلا أو كفتاوى تتعلق بالتحليل النفسي أو كطرق استهلاكية لترويج أفكار أو رغبات شخصية باستخدام الإبداع كوسيلة يتم استغلالها لتمرير معتقدات تحاول فرض مشاريعها الذاتية كبصمات خالدة على الواقع الإنساني.
أشعر بضرورة المحاولة للتأمل في هذا الشيء الذي يتم السعي غريزيا وبمنتهى الاستماتة لترويضه وتدجينه داخل قوالب وأنظمة وقوانين متعاقبة .. الشيء الذي يجب دائما تجاوزه واحتواؤه وتفتيت جوهره داخل سلطات متوارثة ومعدلة من التقاليد والأشكال التي لا يعني حضورها مجرد أداء دور أدبي أو نقدي أو فلسفي أو .. أو .. فحسب .. بل يعني حضورها بشكل أساسي وكلي حضور العالم كوجود مستمر يمتلك بمثل هذه التقاليد والأشكال طريقته للتحقق كفاعل بحيث لا يمكن أن يكون للحياة والموت كما ينبغي أن يجربهما الإنسان وجود حقيقي إلا من خلال هذه القوة الكونية التي عليها دائما تحويل طبيعة الأشياء إلى نظام .. أي شكل من النظام الذي تتوفر فيه السلطة والمشيئة المقدرة والأداءات التي لابد أن تكون متوافقة مع هذه المشيئة . أشعر بضرورة السعي لتأمل (الكتابة) فحسب .. السلوك الإنساني غير المشروط بشيء .. أي شيء سوى الممارسة العادية للحياة فقط .. أدنى درجات الوعي الصادق بعدم الاكتمال وحضور الألم .. المحاولة التلقائية للمعرفة أو التأمل أو الفهم أو الخلاص أو مجرد التعبير عن السيئ في الأمر .. أي قدر من الشر .. كما تشعر به بشكل عادي جدا وأنت تواصل التنفس .. القرار البسيط اللامحكوم بطبيعة الزمان والمكان للقيام بفعل ما يتوقف فيه الفرد عن أن يكون مجرد كائن حي ينتظر الموت بل يمكنه أن يحاول التعامل مع طبيعة العالم الناقصة بطريقة أخرى يمارس من خلالها تحرره الشخصي وربما تحرر الآخرين أيضا . (سأدرس لأعلم كيف أخضع حقيقة وجودي لحكم الزمن . سأكشف عن حدود مقدرتي في تفهم الحياة من حولي . أنا لا أستطيع أن أتظاهر برؤية أكثر مما أرى ، لأنني في كل موضع تحدني حدود حساسيتي ، ونوع حيويتي ، وضيق ذكائي والرعب الذي وجدته في بيئتي الأولى ، وما ترشدني إليه تجاربي التالية . أنا لا أقبل شيئا على علاته ، ولكني أخلق كل شيء خلقا جديدا من مدركاتي . لست أقبل دون تساؤل أي نظام يقال عنه إنه عظيم أو خير ، إذا ما اختبرته ، وجدته عظيما أو خيرا حقا ، وإذا كانت لدي القدرة على فهمه وخلقه من جديد ، حينئذ تبعث الحياة ثانيا في ذلك النظام الإنساني الذي أخذ على علاته وتوارثته الأجيال في وهج الإنسانية التي كانت أول من خلقه ) “ 4 “. لو كان الإنسان يعيش حياته تحت سطوة عادات متوارثة وأنساق أزلية فالكتابة هي المحاولة للانفلات من تبعية هذه السطوة للكف ولو للحظات قليلة عن مجرد الامتثال لأحكامها لتجربة الانفصال المؤقت الذي يتيح فرص التأمل ومحاولة الفهم والمعرفة وإمكانية الخلاص. فالميلاد والطفولة والأسرة والعائلة والإيمان والزواج والصداقة والعمل والذكريات والتاريخ والمنازل والشوارع والجنس والطعام والنوم والجمال والقبح والموت ..إلخ هي الأشياء العادية التي لا يمكن حصرها المتوازية مع نقائضها والتي تعني أنك تمارس الشهيق والزفير بشكل بديهي وتدخّل الكتابة يعني تشكيل ظلال استثنائية للعالم الفعلي تنفي عن أشيائه صفاتها العادية لتصبح شهادة جمالية على الخصوصية والتفرد اللا متعمد بل لأنه صادق فحسب دون قصد امتلاك ما هو غريب أو مبتكر حيث سيصبح اليومي أو الواقعي العادي عن طريق الكتابة فضاء غريبا ومبتكرا بشكل تلقائي وبديهي لمجرد أن ما هو معاش وتقليدي تحول بالقرار الإنساني لممارسة فعل الكتابة من أداة سلطة إلى أداة بوح ورصد واكتشاف .