عرفت أبين في هذه الرحلة الثالثة بعد أن سبقتها برحلتين في أعوام مضت، كنت أكتفي بزيارة مدينة (زنجبار) عاصمة المحافظة ومدينة (جعار) القريبة منها، ثم أعود مسرعاً إلى عدن. الطريق من عدن، يسير بمحاذاة شاطئ أبين، عبرنا منطقة العلم الصحراوية، وحين اقتربنا من زنجبار.. دخلنا دلتا أبين وهي أرض خصبة، كونها مصب وادي بنا الذي تتجمع روافده من أطراف محافظة ذمار وإب وجزء من الضالع.. كرنفال الطبيعة الطريق تحفها غويبات السيسبان ومزارع الباباي (العنب) والموز والمانجو، وشجيرات القطن والتنباك والليمون، وحقول السمسم (الجلجلان) والخضروات. كل شيء هنا يبعث على السكينة.. حركة هادئة للفلاحين في الحقول.. وطيور بيضاء تنبش الأرض بحثاً عن رزقها.. وعصافير ملونة تملأ الأرجاء بأصواتها. البحر لايزال يطل علينا من الشرق بلونه الأزرق، وأفقه اللامتناهي، والسهول المترامية. زنجبار تزيل من فوقها غبار الماضي، مدينة عريقة بدأ الاهتمام بنظافتها، وتنظيم شوارعها، عبرناها إلى مدينة جعار، ومدينة جعار أكثر حداثة، بشوارعها.. ومبانيها.. حيث تختلف عن بقية مدن أبين بفتوتها ونموها السريع. هنا يلتصق وادي حسان مع وادي بنا، ووادي حسان تأتي روافده من عدة أودية تصب من جبال البيضاء ويافع، ليكوّن مع وادي بنا دلتا تشكل نصف قمر بداخل البحر. وتأتي عدة أودية إلى الشرق.. مثل يرامس ووادي أحور.. الجارية من المرتفعات الغربية لأبين.. من البيضاء ولودر والعرقوب والوضيع والمحفد. في كواكب الخيال تتكون أبين في تضاريسها من عدة مناطق متمايزة.. السواحل ثم السهول الخصبة، والجبال العالية الوعرة. ولهذا تتنوع حياة سكانها بتنوع تضاريسها، فسكان السواحل يعتمدون على الصيد بالإضافة إلى الزراعة نتيجة لوجود مصبات الأودية، وفي السهول يعتمدون على الزراعة والرعي، أما سكان الجبال فهم أكثر ميلاً لحياة البداوة. سمعنا في أبين عن جبال فرعون.. التي ذكرها الهمداني في كتابه «صفة جزيرة العرب» كثير من الأساطير يرددها الأهالي عن كهوف تلك الجبال. وحين وصلنا إلى سلسلة جبلية.. دخلنا عدة أودية.. ويا للعجب.. مرتفعات متداخلة.. وتجويفات كبيرة وكهوف.. ومغارات عميقة.. منظر يذكرنا بتضاريس المريخ والفوهات البركانية في كواكب الخيال. منطقة تستحق الزيارة والتخييم .. وقد حاولنا الدخول إلى إحدى المغارات.. إلا أننا تراجعنا مرعوبين بفعل تحذيرات سكان المنطقة الذين حذرونا من عدم وجود أوكسجين وتعرضنا للاختناق.. إضافة إلى وجود زواحف خطيرة، وهناك العديد من المغارات التي تتصل ببعضها في أعماق الجبل.. ولم يسبر أغوارها أحد من قبل. حين عدنا من جبال فرعون.. كان الخيال قد جنح في تلك التضاريس والتجاويف والمناظر التي لم نتوقع أن نجدها بتلك الأشكال الخيالية.. وبتلك الأحجام. ومثلما توجد مناطق يرى الزائر العجب عند زيارتها في الحائط المتكوّن بفعل سلسلة الجبال الممتدة من أقصى الشرق وحتى أقصى الجنوب الغربي.. حيث تترابط تلك السلسلة ابتداء من أطراف حضرموت مروراً بشبوة ثم أبينوالبيضاء وحتى أطراف ذمار وإب لتلتحم بجبال تعز والضالع. ومن جبال فرعون عرجنا على حمام (كبث) حيث تتفجر الينابيع المعدنية.. والواقعة بين يافع وردفان، حيث يتردد المئات من سكان المنطقة والمناطق المجاورة للاستشفاء بمياهه الكبريتية من عدة أمراض. طيوف ساحرة وحين اتجهت بنا السيارة من مدينة لودر نحو شبوة عبرنا منطقة سوداء بركانية، بعد أن أحالت حرارة الشمس تلك الصخور والتلال إلى أرض محروقة.. نطل بعدها على وديان دثينة ببناء منازلها المميزة.. وكأنها حصون تبرز من عصور سحيقة.. زرنا مدينة شقرة الساحلية.. كانت الأعمال تجري على قدم وساق في طريق ساحلية تربط عدن وتعبر سواحل أبينوشبوة وحتى حضرموت.. سألنا عن مناطق ساحلية متميزة، حيث سمعنا من بعض السكان عن وجود شاطئ مختلف في جماله الساحر عن بقية مناطق الساحل. سارت بنا السيارة بطول ساحل رملي باستقامة السيف.. كانت الطريق بدائية.. وكانت المفاجأة حين وصلنا إلى ساحل «مقاطين» حيث تلتحم زرقة البحر بخضرة اليابسة، ليتدرج لون المياه من الأزرق الغامق إلى الأخضر إلى الفيروزي إلى البياض الثلجي للرمال. كانت أشجار جوز الهند تمتد بمحاذاة الساحل.. تعانق النخيل بأطوالها.. أما المياه العذبة فكانت تتدفق لتحيل مياه البحر المالحة إلى فرات عذب لمسافات عميقة.. علامة فارقة على شاطئ البحر العربي تذكرك بشواطئ أرخبيل "تاهيتي" و"هاواي" كانت الرمال تحت أقدامنا متوهجة ببياض كالثلج، والنسيم يدغدغ حواسنا، غابة أسطورية تهنا بين سيقان جمالها، لم نستطع التصديق بسهولة أننا في واحدة من مناطق شبه الجزيرة العربية!؟. مدارات خلّفنا وراءنا شواطئ خلابة مليئة بالفتنة والجمال البكر نحو مناطق دثينة، باتجاه "مودية" و"جيشان" ثم مدينة "المحفد" العريقة، حيث وصلنا عبر طريق ممهدة إلى أطراف شبوة. كنا قد تعرفنا على عدة مواقع أثرية.. منها ما يعود إلى ما قبل الإسلام مثل "قرو" حيث تركت الدولة الأوسانية والدولة القتبانية بعضاً من آثارهما التي لاتزال ماثلة للعيان في "مكيراس" و"المحفد" والعديد من المواقع الأخرى، إضافة إلى المواقع الإسلامية والتي من أشهرها تلك العائدة إلى عصر "علي بن الفضل" الذي مدَّ سلطته ابتداءً من مناطق يافع في أبين وحتى أجزاء كثيرة من اليمن. ومثلما هي المآثر التاريخية في أبين تمتد إلى آلاف السنين؛ هناك أيضاً أغانٍ ورقصات تعود إلى جذور قديمة في الحضارة القديمة؛ مثل رقصة "الليوة" ورقصة "اللوعة" ورقصة "الشرح الساحلية" ورقصة "المحف" ذات الطابع البدني.. أما أشهر هذه الرقصات فهي رقصة "الدحيف" والتي يعود الفضل إليها في انتماء الغناء اللحجي الشهير كلون متميز من ألوان الغناء اليمني. وتتنوع فنون أبين الأصيلة بتنوع مناطقها وتداخلها مع لحجوشبوةوالبيضاء، وترتبط هذه المنطقة بالمناطق المحيطة بها بعدة طرق اسفلتية حديثة، منها الطريق المؤدي إلى عدنولحج بمحاذاة الساحل، ومنها الطريق الصاعد من مفرق لودر باتجاه حائط الجبال العالية مكيراس وحتى البيضاءوذمار.. وطريق آخر يتجه شرقاً ويمر بشبوة وحتى حضرموت.. وهناك طريق حديث مازال العمل فيه قائماً.. وهذا الطريق الحديث سيختزل المسافة إلى أكثر من مائة كيلومتر، وهو طريق موازٍ لشاطئ البحر العربي من عدن وحتى بير علي في حضرموت، ماراً بشواطئ فريدة بجمالها وفتنتها. حين ودعنا أبين؛ كنا على موعد مع أنفسنا لزيارة قادمة، خاصة جبال فرعون بمغاراتها العجيبة.. وساحل مقاطين الذي يحتاج إلى أيام كثيرة لاكتشافه.. ورفقة أكثر بهجة تليق بهذا الشاطئ الفريد بروعته وفتنته.