ليس لبلد شاطئ كشاطئنا.. ولا أمواج كأمواجنا.. الناس هنا لا يعرفون سوى البحر ..هذا البحر الكبيرالذي يحمل همّ المحيط معه في كل موجة .. أما السمك..فهو السر العجيب والسحر الذي لا يفهمه سوانا الرجال هنا ..هزيلون.. هادئون ...يحملون شباكهم مصبحين ولايعودون الإ محملين بأسماكهم المكتنزة الصاخبة.. أما بنات المكلا..فدواء كل علة.. يجلس جدي بجسده الأسمر النحيل قبالة الأمواج المتضاربة ويراقب الشباب وهم يسحبون الأسماك القوية وهي تستميت للعودة إلى دفء المحيط. يرمقهم بعيونه الصغيرة بصمت متقن ويمرر يديه المرتعشتين على صدره العاري والذي لفحته أنامل الشمس .. جدتي تمارس نفس العمل ..مع صراخ وجلبة تدل على شخصيتها ..القوية والساحرة .. أما أمي وزوجات أعمامي فينظفن السمك وهن يدندن أغنيات قديمة بأصواتهن النشاز .. تقترب الجدة لتقوم بالعمل الأهم في العملية كلها.. وتقطع الأسماك من المنتصف ...تماماً من المنتصف !! وهذا هو سر السمك وسر الرجال الخانعين..
صنعاء عاصمة اليمن لا يمكن لأحد أن يدعي أنه زار صنعاء..ان لم يزر صنعاء القديمة.بتراثها الأخّاذ.. وسورها الحجري الشاهق الذي احتضنها و أسرارها لسنين طويلة.. تمشي بداخلها جازماً أنك في عصر من العصور القديمة المشرقة.. أبحث بعيوني الضيقة بين الدكاكين الطينية المتلاصقة.. بين رجال يتحركون مسرعين صاخبين غاضبين .. كانت الدكاكين كما هي ترتص في حميمية هندسية مدهشة ...أحاول أن استرجع الذاكرة علّي أحصل على مرادي .. كان الدكان ضيقاً ومرتفعاً مزخرفاً باللون الأحمر والأخضر المكان هو المكان لكن العم عبدو..تغير تماما... من قابلني كان في منتصف العمر أشعث الرأس يمضغ القات بطريقة منفرة.. نظر إلي بعينين حمراوين جشعتين .. ترددت كثيراً فليس ما أبحث عنه بالشيء الهين.. عدت أدراجي وقد انتابتني الخيبة .. المكان يذكرني بخطواتي الصغيرة وضحكات جدي الهادئة مع العم عبدو.. حيث كان وسيماً وأنيقا. عدت وأنا أجرجر خيبتي.. - سمعت أن ...آه ..آمم ..هل عندكم عقيق؟؟ أخرج علبة مليئة بالاحجار وتنحى جانباً..ليخرج ما في فمه قلبتها مراراً وتأملتها تأمل العارف بالعقيق الأصلي .. وهي أصلية ..الوانها والرسومات العجيبة بداخلها ..ولكن!! - في الحقيقة أبحث عن عقيق سحري ..!! أشار لي بيده وبنظرته المجنونة فهممت بالخروج. إلا أن صوتاً نحيلاً شدني إليه في عمق الدكان المظلم و الضيق.. كان عجوزاً.. أنيقاً.. يرتدي ثوباً أبيض فضفاضاً وطاقية بيضاء مزخرفة و قد غطت اللحية الفضية ملامح وجهه المضيء.. أشار إليّ وأخرج علبة من درج خشبي مطعم بالفضة والعقيق وقد فاحت منه رائحة الجاوي .. أعطاني الخاتم الأول بعناية فائقة وهو يرتعش في يديه المليئتين بالعروق.. كان لونه أرجوانياً صارخاً ولمعته أخّاذة..ومخيفة ...تشعر أن نمراً ضخماً ينظر اليك من خلاله.. - يجعل الناس تخاف منك وتهابك ..والجني اسمه شمروخ.. أعدته اليه وقد تخللت رعشة عجيبة سائر بدني.. - هذا الجني جوهر.. يساعد على الشفاء من الامراض.. - هذه مرجانة ..تجعلك تتحدثين بطلاقة وبلاغة.. كان قلبي يخفق بقوة ويدي تخفي ارتعاشها وأنا أقلّب بها الخواتم السحرية .. - أنت متزوجة ؟؟ هززت رأسي بنعم .. أخرج لي خاتماً كبيراً.. لونه أحمر كالدم.. يسري الضوء من خلاله فيشف ما بداخله من خيوط ذهبية رفيعة ومتشابكة تماماً كمتاهة.. - لن يفارقك أبداً.. سيحبك حتى الموت !. جربته في يدي.. فسحبه بلطف.. - ياولد.. صغر الخاتم للست !! - نكمل الباقين ؟ هززت رأسي نافية وخرجت مسرعة أحتضن الخاتم الغالي..
المكلا جلست مع حبيبي على السفرة ووضعت نصفي السمكة.. وقد امتزجت رائحتها مع رائحة البراوطة الساخنة . لم يسألني عن شيء..لا عن غيابي في صنعاء.. ولاعن الخاتم الاحمر الذي يملأ يدي ..لطيفاً ووديعاً.. كما هم رجالنا.. فجأة ...نظر اليّ مبتسماً ثم إلى السمك .. -لماذا السمك دائماً هكذا.. نصفين ؟ - نعم .. ما به السمك؟! - لا عليك ..لا تهتمي..! قلبي ينبض بقوة واناملي تفرك الخاتم الاحمر.. كنت وأمي والأخريات ننظف السمك .. وكالعادة احضرت الجدة سكينها الكبير وقطعت السمك الى نصفين .. اقتربت من أمي وبصوت خافت .. - ما سر السمك يا أمي لم نقطعه لنصفين؟ نظرت إلي بنظرات خائفة مخيفة وصمتت .. صرخات صاخبة تملأ المكان وضحك متواصل قوي ..كانت الجدة تضحك بكل سحرها. - سمعتك !! هل حقاً لا تعرفين ؟؟ وأنتن ألا تعرفن ؟؟ كانت النسوة تنظر إليها ببلاهة خائفة .. - إنها المقلاة ..مقلاتنا صغيرة يا حبيبتي لا تكفي لسمكة كاملة .. كانت الجدة لا تزال تضحك..بقوة وسحر.. بلا توقف .. وأنا أفرك الخاتم الاحمر ...بلا توقف ... هامش الجاوي: نوع من البخور يستخدمه البعض عند تكفين الموتى ويستخدمه السحرة وملاك الجن.. البراوطة: خبز شعبي معروف له رائحة زكية وطعم مميز يشبه الشباتي الهندي مع اختلاف بسيط.