كانت فرصة نادرة تلك التي فتحت أمامي أفقاً بهياً تسنى لي من خلالها الكشف عن مكامن الجمال الطبيعي في إب، عن كنزها الطبيعي، عن التكوين الابجدي لهذا الرسم الطبيعي البديع، عن جبل مشوره حيث تتلقفه السحاب والرذاذ، وتنبثق فوقه النباتات المتنوعة، تقاطيع السيول المتألقة بياضاً، شموخ الامكنه واطلالها الرائع، الازدحام الجميل للزائرين، فوضى الباعة الصغار، موسيقى عربات الآيسكريم، وكل الأشياء التي أوجدت ذلك المناخ الربيعي النادر، إنها دقائق ثمينة ثمينة جداً يعيشها المرء في خضم تلك الأماكن المسكونة بالجمال والمتلألئة بالاخضرار خاصة في ظل هذا التعانق الصيفي والربيعي على هذا الجبل الشامخ. جبل مشورة ثاني المسميات في التقدير السياحي للمحافظة يأتي ذلك في السياق التراتيبي كأقرب النقاط السياحية لمركز المحافظة، يستمد الجبل مكانته السياحية من حيث كونه أحد المرتفعات المتربعة فوق هذا النسيج الأخضر من لوائنا البهي، وهو مايعطي مؤشراً عن قابلية امتلاكه هذه الميزة السياحية التي لا تقل أهمية عن الأهمية التي يتمتع بها جبل ربي المطل على القلب الحضري للمدينة. ثمة ماهو أبعد من ذلك فجبل مشوره يتمتعه بعمق جغرافي وطبيعي خالص من كل المؤثرات الحضرية التي تشكلها فلسفة الزحف العمراني، هذه الفلسفة التي تعد أداة تفسد المناخ الطبيعي كما هو عليه الحالي في جبل ربي حيث تحاصره الفوضى المعمارية من كل جانب، لكن من الملاحظ أن الزحف العمراني مافتئ كما تعلمون في طبيعته خادماً لرغباته وغرائزه المتأججة كالبركان، فهو يحاول فرض إرداته على كل شيء حتى لو كان ذلك على حساب تلك الأماكن الطبيعية العذراء، بل على العكس من ذلك فالأماكن التي توفر مناخاً سياحياً فريداً كجبل مشوره تصبح أداة تنافس بين أصحاب رؤوس الأموال ولعلها في تقديري من أكثر المناطق المتعرضة لمخاطر الاستيطان البشري الذي يقوم به عصبة الاغنياء على اختلاف تصنيفاتهم ومسمياتهم. الجبل المتربع على خارطة الكون مشورة بفتح الميم وتسكين الشين جبل أشم يطل على مديرية العدين، هناك في الجهة الغربية للمدينة التي تشهد زخماً معمارياً نادراً، وعبر ذلك الطريق الاسفلتي المتعرج الذي يبدأ من قلب الزحام بطول يبلغ حوالي 20كم، والذي يزدان بذلك الاخضرار الذي يحاصر الطريق الاسفلتي من كل جانب، يطل بشموخ على تلك الأودية المترامية المسكونة بوهج الحياة، يبلغ ارتفاع الجبل حوالي 1400م عن سطح البحر، ويمتاز بمناخ معتدل في الصيف وبارد في فصل الشتاء حيث تهبط درجة الحرارة لتصل إلى 10درجات فيسود الجبل برودة ناعمة يتخللها ثراء في الاوكسجين فيقبل الزائر على استنشاقه كما لو كان رائحة عطر تصدر من صدر فتاة عذراء فاتنة. يجاور الجبل من الغرب مديرية العدين ومذخيره ومن الشرق مدينة إب ومديرية جبلة ومن الشمال مديرية حبيش والحزم وجنوباً مديرية ذي السفال وأجزاء من مديرية مذيخرة. في رحاب جبل مشورة لم نكن قد رسمنا هدفنا قبل بلوغنا هذه الوجهة السياحية، لكن قريبي المهندس علاء الذي سبق له وأن زار هذا الجبل واستمتع مع رفاقه بمتعة التنزه والمقيل، كان قد شجعنا على زيارته بعد أن انتقى الفاظاً مدائحية تليق بمكانة هذا الجبل، لذلك وبعد الوصف الرائع الذي ابداه ابن عمي وجدنا أنفسنا مهرولين تسبقنا اشواقناً ملتهبة لرؤية هذا المعمار الطبيعي الذي تكتنفه الطبيعة من كل جانب وترسم على خدوده آيات معجزات أودعتها جهامة السماء. كانت رحلة عائلية بامتياز ولعلها هي الأولى في حياتي حيث تسنى لي الاستمتاع برؤية جدتي التي يربو عمرها على الستين وهي تتنقل بخطى هامسة في تلك الاماكن المليئة بضوضاء الزائرين، كانت أكثر سعادة وهي ترى تلك المدرجات المتراصة فوق بعضها باتقان، والمشبعة بسنابل الذرة حيث ذروة الموسم، والمليئة بأشجار العثرب هذه النبتة الطبية والغذائية التي تتشكل منها وجبة يطلق عليها وجبة «العثرب» حيث تشكل نباتات الدبا بثمارها «الجعانن» التي تشبه حبات الحبحب مدخلاً أساسياً في عناصرها، هذه الوجبة تسلب ألباب اجدادنا وتجعلهم يقبلون على التهامها كما لو كانت قطعاً من اللحم المتناثرة فوق كومة الرز، وربما لهذا السبب كانت جدتي تتأمل تلك النبته بخشوع. كان المكان رائعاً والاروع من ذلك حين يرمق أحدكم عجوزاً وهي تبتسم كالطفل أمام الكاميرا محاولة اخفاء شحوب وتجاعيد وجهها دون جدوى، إنها الشيخوخة حيث يتحول المرء في كثير من الاحيان إلى طفل صغير تبدو أمامه الحياة كلها لغزاً محيراً، ولذا لا غرابة أن تفاجئني جدتي بسيل من الاستفهامات حتى عن أبسط الأمور وايسرها فهماً عند العقل البشري. إطلالة على خدماته السياحية بالنسبة لي شخصياً لا أشجع مزيداً من التوسع المعماري حتى لو كان ذلك عبارة عن منتجعات سياحية، لأن ذلك سيكون على حساب طبيعة الجبل التي هي بيت القصيد في هذا المكان السياحي الجميل، ومن أجلها يتيسر الكثيرون إلى هذا الجبل طمعاً في اقتناص لحظات عمرية بين احشاء الطبيعة، لكنني لا أرى مانعاً في تشييد منتجعات تكون خاضعة بالدرجة لتقييم الأثر البيئي يقوم بها مكتب البيئة بالمحافظة وتتم عملية البناء دون جرح الطبيعة جرحاً غائراً. في جبل مشوره منتجع سياحي يطل بألوانه الجذابة وبقبابه الوردية الجميلة، هذا المنتجع يوفر خدمات سياحية رائعة، استراحات عائلية، دنيا متواضعة لألعاب الطفولة، باحة يتسنى للزائر فيها التقاط صور على ظهر الخيل وبمداعبة صقر وديع. يوفر جبل مشورة ألواناً طيفية للخدمات السياحية لكن السياحة البيئية تظل هي المتألقة دوماً، وربما لهذا السبب تحتل وجداننا.. حقيقة أن لا شيء أجمل مما صاغته عناية السماء، وتأملوا معي مثلاً القادم من اوروبا كيف يحاول الاسهاب دون شعور شارحاً تفاصيل الطبيعة وغافلاً في كثير من الاحيان ما أبدعته أنامل البشر من معمار يسلب الالباب. ولعلني هنا أشد على يدي قيادة المحافظة وهي الناجحة دوماً على تعميق الاستفادة من هذا المنتجع الطبيعي الأكثر من رائع لندرك من خلال ذلك أن إب كانت ومازالت اعجوبة اليمن الطبيعية. إلى مكتب السياحة بالمحافظة لعلكم تدركون المكانة التي احتلها جبل ربي في نفوس الكثير من عشاق هذا اللواء البديع، ولعلكم في المقابل تدركون مكانته الجغرافية تلك التي جعلت من اطلالته على المحافظة نقطة ذهبية في سجل السياحة بالمحافظة، ولا يخالطني ادنى شك في أنكم تعتبرونه تلك الوجبة السياحية الدسمة التي تقدمونها للزائرين وما أكثرهم، بنفوس راضية ومطمئنة، لذا فإنني وبعد هذا الاسترسال الفضولي أعبر عن عميق حزني لبعض مارأيته هناك من تصريف عشوائي لمخلفات الصرف الصحي، وصل بهذا الأمر حد أنك لو اطلت برأسك من جوار استراحات المقيل لرأيت ما يجعلك تستقبح السياحة بل وتندم على تلك اللحظات التي اذهبتها هدراً وأنت تطيل المكوث فيه. على فكرة أعرف غالبية المعنيين بالعمل السياحي بالمحافظة وهم رائعون، وتربطني بمديرها الدكتور أمين جزيلان علاقة صداقة اظنها رائعة، وبالمقابل أعرف مدى حرصه على اظهار المحافظة بمظهر سياحي لائق، ومن أجل هذا فإنني أضع بين يديه تساؤلي العميق عن مستقبل الصرف الصحي على هذا الجبل الجوهرة منتظراً أملاً جميلاً يفضي بالأمور إلى الاستحسان.