أكان يقف مع الوزير؟ نعم، كان يرى أن الوزير ابن رسول الله، متدين وعادل، وينظر إليه نظرة تقديس، وبعد أن أعتقل عمي عبدالوهاب، اعتقلوا أيضاً بعض الأقارب، وجرى نهب كل ما يملك في بيته من أثاث وأمتعة ؛ كانت هذه الأشياء تنطوي في نفسي منذ الصغر،رحلت بعد هذا إلى زبيد ودرست، وبقي عمي عبدالوهاب في السجن حتى توفى كل المسجونين الذين سجنوا من حكام مناطق اليمن الذين أعتقلهم الوزير، ونجى عمي وحده، فلما نجى أخرجه الإمام يحيى من السجن، وعندها أخذ يلوذ بولي العهد سيف الإسلام أحمد وبأولاد الإمام، يشدد علاقاته بهم ويثير السخط ضد علي الوزير عند أولاد الإمام ويغريهم به بحكم الأخذ بالثأر، وكان علي الوزير ينتقم من آل النعمان الموجودين في تعز ويعتبرهم خصومه، لأن خصومه الأولين ماتوا في السجن وانقرضوا، لكن الذين بقوا وظلوا دائماً مثار سخطه موجودون، مثلاً كان لي أخ كبير هو علي محمد نعمان، كان موظفاً،وكان علي الوزير يحكم المنطقة ويفصلهم من أعمالهم ويقيم العراقيل أمامهم، كل هذا نكاية بهم لأنهم مرتبطون بالإمام وبأبناء الإمام ولأنهم يثيرون المعارضة لهم، وجاءت أيام علاقتي بولي العهد فتعرضت للعقاب من علي الوزير عندما فتحت مدرسة وبقيت أدعو الناس للصلاة وأنشر الدين، فكتب يمنعني من هذه الدعوة وقال :” ابن النعمان ليس معنياً بالإسلام” وكأنه كان يرى ألا نقوم بأي عمل، وأن لا نظهر على السطح لا بمصلحة دينية ولا دنيوية، ظلت العلاقة تسوء بيننا وبينه على الرغم من أن والدي كان صديقه، ولما مات والدي نعاه وتأثر لموته وعطف على أولاده من بعده، وحاولت أن أخلف والدي كرجل صالح وعالم، ودخلت عنده بعد أن أتيت من زبيد وحضرت مجلساً من مجالسه، وأحببت أن أبرهن على علمي بأن طرحت سؤالاً فيه أولاً إظهار للمعرفة،كما قلت لكم لم تكن مواهب الإنسان تتضح من خلال الشهادات، وإنما تظهر فيما يبدي من علم وفيما يورد خلال النقاش، وفيما يحل من مسائل ذهنية ونحوية، فانتقيت بيتاً من الشعر أردت أن أمدح به الأمير وأظهر المعلومات التي عندي فقلت: بستان قلبك مثمر ألوانه العدل والمعروف والإحسان فهل للقلوب بساتين أم أن هذه تشبيهات مجازية أم أنها استعارات بيانية يستعار فيها اللفظ لقول شيء آخر، أوردت عدداً من الأسئلة حول هذا البيت، وفي هذه اللحظة كانت توجد جماعة لفت أنظارهم أن الشخص المنزوي بهذا القدر من العلم ومن هذا الكلام، أجاب الوزير وقال :” إنه مجاز ولكن أريد أن أسألك” قلت له:” تفضل يا مولاي والفائدة منكم مطلوبة” قال:” كسراب بقيعة من بقيعة هنا وصف للسراب،والسراب مذكر وبقيعة مؤنث لماذا وصف المذكر بصفة مؤنثة؟” قلت له:” الذي يتبادر إلى ذهني وقد أكون مخطئاً يا مولاي أن القيعة ليست وصفاً لسراب ولكنها جار ومجرور، الباء حرف جر وبقيعة مجرور بالياء، السراب هو ما يتراءى للإنسان وقت الهجير من أنه ماء وإذا به يتبين أنه لا شيء، وكسراب بقيعة يعني كسراب بقاع والبقيعة تطلق على القاع” فتحمس أحد العلماء من هناك يريد أن يثأر للوزير فقال:” نريد أن نسألك عن إعراب قول الله سبحانه” ما جئتم به السحر إن االله سيبطله”، تعريض بأنه سيبطل السحر وكانت هذه المسائل يعرف أحكاماً “ما” في العربية : ما المصدرية وما الاستفهامية،وكانت هذه المسائل حاضرة عندي فقلت له:ما اسم موصول بمعنى الذي، الذي جئتم به السحر، وجئتم صلة الموصول والسحر خبر للمبتدأ: أي الذي ،قال: ما شاء الله،ذكي ونبيه”،وحصلت على الشهادة وصدر الأمر في ذلك الوقت من السيد علي الوزير، في شكل رسالة إلى الإمام يحيى يقول فيها:” إنه وصل إلينا الفقيه أحمد محمد نعمان الذي تعلم في زبيد وهو نبيه ومن أهل الاستحقاق، نرجو أن تعينوا له ما ترونه مرتباً شهرياً ليقوم بالتدريس في الحجرية، وقد حمل رسالة من عامل الحجرية القاضي حسين الحلالي ومن حاكمها محمد بن علي المجاهد، وعندما خرجت من عنده أمسك بي شخص أصبح فيما بعد صديقاً، هو السيد محمد أحمد باشا، عامل تعز من تحت أمر علي الوزير، فقال لي :” أريد أن أسألك أنت من أين؟” قلت له: من الحجرية”،قال:” ومن بني نعمان! “ قلت: نعم، وكان من أصدقاء أسرتي ولكن مع انقطاعي للعلم لم أكن قد عرفتهم” قال:” أنت أخو علي محمد نعمان”قلت “نعم، قال:” وأين نزلت” قلت: “نزلت في بيت خسن آغا” قال:” لماذا لم تنزل في بيوت الظلمة”، قال:” في بيوت الظلمة ! أنت أتيت لتمتحن الأمير الوزير إذا كان يصلح للحكم أم لا يصلح؟” ما إليك والفضول” قلت له: “نحن نحيي المجالس بالعلم وبالذكر، فكل مجلس لا يحي بالعلم ولا ذكر الله فيه يكون حسرة يوم القيامة”قال لا اله إلا الله،أفاد الله منك، هيا تفضل”،وأخذني بالقوة وأركبني معه وأوصلني إلى بيته وأسلمني لأخيه السيد عباس بن أحمد، وبقيت هناك عند أخيه، ونشأت بيني وبين السيد عباس بن أحمد صلة إلى النهاية، بقيت أياماً عندهم في تعز وعدت إلى الحجرية،وظل السيد علي الوزير يعقب بعدي ويتابع ما أعمل؟ وماذا أقوم به من نشاط؟ طمحت للاتصال بسيف الإسلام أحمد بسبب معرفتي له من الزرانيق، وقد أحدث هذا أثرا عند الوزير، فظل يكتب للإمام بأن الأستاذ نعمان أصبح يعلم العلوم العصرية وينشر دعاية للوهابيين وللسعوديين ضد الإمام، وكنت أنا أشتكي من ذلك إلى ولي العهد. فاستدعاني علي الوزير وأبقاني في تعز تحت الإقامة الجبرية لمدة أربعة أشهر. وتوترت العلاقات بيني وبينه، وكان هذا التوتر من تأثير الخلافات والرواسب السابقة إلى أن جاءت الفرصة التي خرجت فيها إلى مصر حتى أصبح ولي العهد فيما بعد في تعز، وقد واصلت الكتابة والنشر في الصحف ضد علي الوزير، أصف ما يفعل بأهل لواء تعز، وكيف حبس المشائخ،وحبس عمي، وكان ولي العهد يقرأ ما أكتب ويرتاح لأنه موجه ضد آل الوزير. وفي تلك الفترة تم إقصاء بيت الوزير من الحكم، وجاء ابنهم عبدالله بن علي الوزير إلى مصر، فاستقبلته استقبالاً أخوياً وبدأت أربط معه صداقة وأعيد الصلة القديمة، وعندما سافرت من القاهرة حملت رسائل لآل الوزير، لماذا؟ لأني قد ارتبطت بالزبيري، وللزبيري علاقة بآل الوزير،وقد طلب مني أن نتفاهم مع هؤلاء، وكانت مشاعري طيبة نحو عبدالله بن علي الوزير الذي جاء إلى مصر. كنت أحترمه وأكرمه واحتفي به، فأثر هذا في نفسه، وكان يكتب إلى أبيه، فلما رجعت إلى تعز كان ولي العهد قد حل محل علي الوزير هناك، ولكن وجدنا أن الأحوال قد أصبحت بالنسبة للعموم أسوأ مما كانت عليه في عهد علي الوزير لذلك بدأنا نحسن علاقاتنا بآل الوزير ونوجد نوعاً من العلاقات والروابط، إلى درجة أن عمي عبدالوهاب أصبح مع علي الوزير، الذي حبسه وشرده صديقان يتآمران معاً لقتل الإمام يحيى، وإذا بهما يعدما بسيف الإسلام أحمد معاً سنة 1948م، ودخل السجن عدد كبير من بيت الوزير، وبيت نعمان،وهكذا أصبح بيت الوزير فيما بعد محط أمل، لأنهم تبينوا أنهم خير، من بيت حميد الدين، كان أبناء الإمام يحيى عندما استولى والدهم على الحكم شبابا أحداثا، أكبرهم أحمد ثم محمد الذي غرق في البحر والذي كان خير أبناء الإمام يحيى، وبدأ الناس يتطلعون لعهد بيت الوزير، وعند الإعداد لانقلاب 1948م جرى ترشيح آل الوزير للحكم، وعندما فشل الانقلاب دخلنا السجن نحن وإياهم، وإذا بأولاد علي الوزير كأنهم أعز من أبنائي، كنا سوية في سجن حجة، نتعايش معهم ونتعاطف معهم، وتكررت مراجعاتي للإمام أحمد أطلب فيه العفو عن بيت الوزير،إلى أن دارت الأيام دورتها، وعندما خرجنا إلى مصر كان أولاد علي الوزير،قد خرجوا وإذا بهم ينقلبون ضدي ويعملون ضدنا، يحسنون علاقاتهم ببيت حميد الدين ويحملون علينا نحن الأحرار، وكانوا من جملة انشقاقات الأحرار، كانوا من الأحرار فانشقوا. لماذا؟ لأن الأحرار لم يعدوهم لكي يكونوا في الصدارة،ليس أنا بمفردي، وإنما الجميع، لأن الناس لايريدون بيت حميد الدين ولا بيت الوزير، فحين سقط بيت الوزير، سنة 1948م،أراد أبناؤهم أن يكونوا خلفا لبيت حميد الدين،وما دمنا الآن قد حملنا على بيت حميد الدين فلا بد أن يكونوا في الصدارة، لأنهم ضحوا سنة 1948م، وبدأ الأحرار الذين لاينتسبون إليهم يحملون عليهم ويريدون أن يتعاملوا معهم كأناس عاديين، لكنهم لم يقبلوا بهذا بل كانوا يريدون أن يكونوا في طبقة القادة وأن يحلوا محل بيت حميد الدين عندما ينتهوا، في بيت الوزير شباب أذكياء،وكان لهم نشاط في القضية الوطنية، ولكن في نفوسهم شيء وهو أن الكثير قد ضحوا،فلا بد أن يكون لهم مكان يعترف به الآخرون،ظنوا أننا نحن واقفون لهم بالمرصاد بسبب الرواسب القديمة والميراث القديم، فظلوا دائماً يركزون علينا في الصحف، لدرجة أننا لو اتخذنا أي موقف لابد أن يكتبوا ليشوهوا هذا الموقف، ولم تهدأ الحال وتتحسن العلاقات بيننا وبينهم إلا بعد أن خرجت من السجن الحربي بمصر سنة 1967م، وقد كونوا لأنفسهم حركة سموها “ اتحاد القوى الشعبية” وارتبطوا بالسعودية على هذا الأساس، وظلوا يصدرون بيانات ورسائل يطالبون فيها بحل وسط بين الجمهورية والملكية، وحينما خرجت من السجن والتقيت بهم في بيروت أزلت ما في نفوسهم من شكوك وأوهام، وأصبحت كأخص أقربائهم، حتى أنني عملت لتنقية الأجواء بينهم وبين الآخرين الذين يحاربونهم أو المتضايقين، أقمت نوعاً من العلاقة بيني وبينهم حتى أنني قلت لهم يجب أن نسير نحن وأنتم في اتجاه واحد، نريد أن تحطوا اليمن خطوات موفقة، ولا نشترط أن تأتي هذه الخطوات على أيدينا، يجب أن نتحرر من الأنانية، إذا جاء الخير لليمن على أيدي أي كان فنرحب به ونؤيده، ينبغي أن لانبقى أنانيين، بحيث إذا لم يأت الخير على أيدينا لا نقبل به، كما كان يقول المصريون، من قبل:” الاستعمار على يد سعد أفضل من الاستقلال على يد عدلي” ،هذه أنانية وتعصب، واليوم بدأت اليمن تخطو خطوات موفقة وعلينا أن نباركها، وإذا كان الحكام قد وقفوا تجاهكم كما وقفوا تجاهي، مع أن مواقفهم تجاهي كانت فظيعة جداً، حينما رأيتهم عادوا إلى الطريق السليم الذي ندعو إليه نسينا كل شيء، وتحسنت العلاقات ونحن في حالة سلام عام. العلاقات بين البدر وعبدالناصر أخبرنا عن علاقتك بالبدر بعبدالناصر؟ أول ما تعرفت على البدر كان له من العمر 16 سنة، جاء به والده من حجة إلى تعز، وأنا مدير المعارف في تعز، وقد خطب في الناس، وصلى بهم الجمعة، والأئمة دائماً يدربون أولادهم على الخطابة لصلاة الجمعة وعلى الصلاة بالناس ليكون إماما دينيا إلى جانب كونه إماما سياسيا، وبعد أن خطب البدر، ألقيت كلمة أتحدث فيها عن هذه التربية والتنشئة الدينية من الصغر، وعما نتخيل في هذا الأمير الشاب في المستقبل، ونثني على أبيه وعلى قاعدة الأئمة، وعلى تعويدهم لأبنائهم الذهاب إلى بيوت الله والتردد على المساجد، كانت خطبة طويلة جعلت البدر نفسه يسمع لأول مرة حديثا بليغا وهو آت من حجة من بين القبائل، ولما سمع هذا الحديث تأثر به،وكنا نلازمه أحياناً ونظل نتحدث معاً. وأبوه عندما سمع هذا الحديث أعجب به، كنا نقول إن الأمة العراقية احتضنت فيصل في العراق وهو طفل لأن أباه صنع ما صنع، وهكذا يربى الملوك ويربى الأئمة وهم صغار ويكسبون محبة الشعوب، فكانت هذه من عوامل توثيق صداقتي مع الإمام ومع البدر في الوقت نفسه، وبدأ البدر يتفتح ويتزود بالثقافة الحديثة وتأتي له الكتب الحديثة والجرائد إلى درجة أنه تمرد مرة على أبيه وطوى الكتب الفقهية،والكتب الجامدة والمخطوطات وما إليها ليقرأ الكتب الحديثة.